الأحد، 7 سبتمبر 2014

اللقاء الخامس ، السادس | تدراس


لقاءات مجموعة | تدارس |
 في تطبيق لاين [line] 
الدرس الخامس ، السادس :

[ سورة النازعات ]









•• الدرس الخامس :

هذه السورة سورة مكية،
 إن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، وهي بيِّنة بأنها مكية من خلال موضوعاتها وآياتها.
أما الموضوع فهو الحديث عن القيامة، وأما الآيات فهي قصيرة وقوية، وذات دلالات واضحة، ومناقشات بيِّنة لهؤلاء الذين كذبوا بالدار الآخرة، وكذبوا بالبعث والجزاء والنشور.

(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) فما النازعات ؟!!
- هي الملائكة تنزع أرواح الكفار
﴿غَرْقًا﴾، فهي تنزعها نزعًا شديدًا مثلما يجذب الرامي الوتر، أو الحبل المعلق بالقوس حتى يُلقي السهم أو يرمي بالسهم، فكذلك تُؤخذ أرواح الكفار، فهي تُؤخذ أخذًا شديدًا -نسأل الله العافية والسلامة-.
(وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) فما الناشطات ؟!
لما ذَكَر النازعات ذَكَر في المقابل أرواح المؤمنين، فماذا قال؟ ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾.
 يعني هذه الملائكة تأخذ أرواح المؤمنين أخذًا سهلًا رفيقًا كالأنشوطة، أو كالشعرة عندما تخرجها من العجينة، لاحظ الشعرة عندما تخرجها من العجينة، تَسُلُّها سلًّا رفيقًا، لا تسمع لها صوتًا ولا تأخذ حتى أثرًا من العجين.
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا، هذا أيضًا صفة لموصوف لا ندري ما هو، لكن الظاهر أنه موافق لما قبله، وهي الملائكة تسبح في هذا الكون لتنفذ أوامر الله -سبحانه وتعالى-.
﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾، أيضًا هذا وصف للملائكة في أنها سابقة، تسبق إلى أي شيء؟
- تسبق بأمر الله ولتنفيذ أوامره وطاعته -سبحانه
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرً) الملائكة المدبرة ما أمرت به من أمر الله .

يقول الله -عز وجل- في بداية هذه السورة: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1﴾ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2﴾ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3﴾ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4﴾ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾، هذه خمسة أشياء أقسم الله -عز وجل- بها في مقدمة هذه السورة.
فما جواب القسم ؟!!
حذف ولكن ننظر إلى السورة تتكلم عن ماذا؟ إنها تتكلم عن الجزاء والبعث والنشور.
إذن: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1﴾ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2﴾ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3﴾ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4﴾ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾، ماذا؟ 
- لتُبْعَثُـنَّ ولَتُجَازُنَّ بأعمالكم.

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾، ما الراجفة؟
- هي يوم القيامة .
وهي الدلالة على النفخةِ الأولى التي إذا نَفخ فيها إسرافيلُ -كما بيَّنا في الدرس الماضي- لارتجفت الأرض، فمات الخلق.
﴿تتبعها الرادفة ﴾، سُميت "رادفة"؛ لأنها تأتي رَديفةً للراجفةِ، وهي تابعة لها، وكم بينهما؟ ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: «بينهما أربعون»، قيل: يومًا؟ قال: أبيت. قيل: شهرًا؟ قال: أبيت. قيل: عامًا؟ قال: أبيت، يعني أني أقف عند الذي سمعت، قال: «ما بين النفختين أربعون»، فأنا سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أربعون"، فلا أزيد على هذه الكلمة لا يومًا ولا شهرًا ولا عامًا.
﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾، كأن المعنى: إذا بعثتم فرجفت الراجفة، وأتبعتها الرادفة؛ سيكون هناك قلوب في هذا اليوم واجفة. ما معنى واجفة؟
- الواجفة: مأخوذة من الوجيف وهو شدة الاضطراب، أي خائفة ومترقبة، وأصابها من الذهول والرعب الشيء العظيم.
لماذا وصف القلوب بذلك؟ لأن الوجيف يكون أولًا في القلب، ثم يظهر أثره على سائر البدن، يعني هل البدن يمكن يرتعد من الخوف والقلب لم يحصل به خوف؟ 
هل يمكن ؟!
- لا
ذكر واجفة وصفاً للقلوب قبل الأبدان. 
﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾، نسب الأبصار إلى القلوب؛ لأن الأبصار متعلقةٌ بها، فما يكون في القلب يظهر على البصر، ولذلك يُقال: "الإنسان عينه فَرَارُه"، يعني عينه تفرُّ عما في نفسه، فتُبدي له ما إذا كان الذي أمامها صديقًا أو عدوًّا، مواليًا أو معاديًا.
والنفْسُ تعرفُ من عينيْ محدثها *** إن كان من حِزبها أو من أَعَادِيها
﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾؛ أي ذليلة منكسرة. لماذا ذليلة؟
لأنها تعلم أن المصيرَ شديد، وأنها لم تستعدَّ لهذا اليوم، بل قد كَذَّبت به وقد جاءها البرهانُ والحجة، لكنها كذبت من غير حجة ولا برهان.
﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9﴾ يَقُولُونَ﴾، هذا استئناف يُبين اللهُ فيه ماذا كانوا يقولون في الدنيا، هذا هو الذي جَعَلَهم يخافونَ في الدارِ الآخرةِ، وَجَعَلَهم يَرهبون اللقاءَ ذلك اليوم؛ لأنهم كانوا في الدنيا يَقولون:
﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾، يعني أإنا لراجعون إلى الحياة بعد أن متنا.
﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً﴾، سنُرد في الحافرة، سنعود مرة أخرى إلى حياتِنا التي كُنا عليها؟! سنكون أحياءًا بعد الموت؟ هذا شيء عجيب! هذا شيء نُنكره، شيء نكذب به، لا يمكن أن نصدقه، هذا شيء لا نعقله.
﴿قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾، يعني إن رددنا في ذلك اليوم، فتلك الرجعة رجعة خاسرة.
قال الله -عز وجل- مُبينًا أن الأمرَ أيسرُ ما يكون على الله -جل وعلا- وأن هذا الذي استصعبتموه واستثقلتموه وأنكرتموه سيحدث بلا شكٍّ، وأنه ليس شيئًا عزيزًا على الله -عز وجل-.
﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾؛ أي صيحة واحدة يصيحها إسرافيل عندما ينفخ في القرن الذي جعله الله -عز وجل- بنفخة البعث.
﴿فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ﴾، فإذا هم فوق الأرض التي جعلها الله أرضًا للمحشر والمنشر.
والساهرة: هي الأرض، سُميت ساهرةً؛ لأن عليها سهر الناسِ ونومهم.
﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾، والزجرة هي: الصيحة العظيمة التي يكون فيها شيء من الغضب.
وقد ذكر بعض السلف أنه ما مِن يومٍ يُرى فيه اللهُ -عز وجل- أشدَّ غضبًا من اليوم الذي يُبعث فيه العبادُ.
﴿فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ﴾، فإذا هم قيامٌ يَنظرون -كما في الآية الأخرى- فوق هذه الأرضِ التي قد جعَلَها الله -عز وجل- مكانًا وموئلًا لحشْر الناسِ ونشْرهم.
هنا انتهى المقطعُ الأول من السورة، يَنتقل بنا إلى مقطعٍ جديدٍ، قد يَستغرب الإنسان لماذا جاء هذا المقطع في ثنايا الحديث عن يومِ القيامة، ولكني أظنُّكم ستَكتشفون ذلك، وأريد منكم أن تسألوا أنفسَكم
كانوا يكذبون أنهم سيبعثون ويتعجبون من ذلك فبين الله لكم ذلك (فإنما هي زجرة واحدة)
﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾، الآن ترك الحديث عن الآخرة، وعن الجنة، وعن النار، وعن مآل المؤمنين، ومآل الكافرين والمكذبين بالبعث، إلى حديث آخر كأنه منقطع تمامًا.
﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾، ﴿هَلْ﴾ هنا استفهام يراد به ماذا؟ يراد به التشويق. هل أتاك قصة موسى عندما دعا فرعون إلى الله -عز وجل-؟
قال: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿15﴾ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾، إذ كلمه الله -عز وجل- على صفة النداء، وقد أخذ العلماء -علماء أهل السنة- بأنَّ كلامَ الله -عز وجل- لموسى كلامٌ حقيقيٌّ، وأنه بصوتٍ يُسمع؛ لأنه ما وصفه بالنداء إلا لأنَّه يسمع.
﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ﴾، واختار وصفَ الربِّ دُون "إذ ناداه الله" ليُبين أنَّ هذا النداءَ كان رحمة، وكان نعمة، فالربوبية دائمًا ملازمة للرحمة والنعمة والعناية والحفظ والرعاية.
﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ﴾، هذه إشارة إلى ماذا؟ إلى الوادي الذي كلم الله فيه موسى، وهو في جانب الطور الأيمن، في ذلك المكان نودي موسى -عليه الصلاة والسلام-. 
قال: ﴿طُوًى﴾، ﴿طُوًى﴾ هذا ما معناه؟ هذا اسم للوادي، ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾، "طوى" اسم للوادي، فكأنه ماذا؟ بدل من قوله الوادي المقدس.
والْمُقدَّس بمعنى: المطهر، ومنه روح القدس أي روح الطهر.
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾، هذا هو محتوى النداء.
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾؛ أي اذهب مُكلَّفًا من عندي برسالة إلى فرعون تبلغه بهذه الرسالة، وتأتيه بتلك الآية، وتقيم عليه الحجة.
﴿إِنَّهُ طَغَى﴾؛ أي عَتَا وزادَ في الكفر، وهذا يدل -يا إخواني- على أن الكفار أنواع: منهم من هو كافر، لكنه لم يصل إلى المرحلة التي يتعدى بكفره حتى يدعي أنه هو الله، وأنه ربهم الأعلى، وأنه ما علم لهم من إله غيره، ولا يفعل تلك الأفاعيل العظيمة بالناس فيستحيي نساءهم، ويذبح أبناءهم من غير أن يكون هناك حجة أو برهان أو بينة على هذا العمل الذي يعمله.

وفي هذا المقطع حديث عن تجبر فرعون وما فعله ببني اسرائيل وما أتى به من الطغيان وكيف دعاه موسى عليه السلام .


•• الدرس السادس :

﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17﴾ فَقُلْ﴾، الله -عز وجل- يُبين له طريق الدعوة، كيف تدعو مثل هؤلاء، وإذا كان هذا في حال الطاغية؛ فحال من دونه من بابٍ أولى، هذا الرجل الذي قال ما قال، وفعل ما فعل مما لم يفعله أحد قبله قل له هذه العبارات.
في سورة طه بَيَّن الوصف، قال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾، يعني طبيعة النفس لا تحب أن يَقْصُرَهَا أحدٌ على الحقِّ، ولو كانت تعلمُ أنه حق، وهذا يدلنا على ما أعطيه الإنسان من حب لأن تُحترم ذاته وألا يُهانَ أو يشعر بأنه يُرغم على الحق إرغامًا.
وهنا فائدة في جانب الدعوة وكيفية التعامل مع المدعويين
﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾، ﴿هَل لَّكَ﴾ هذه من باب ماذا؟
قال : هل لك .. لماذا اختار مثل هذا اللفظ ؟!
التودد والترغيب والتحفيز..
﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾ ما معنى ذلك ؟!
تُزكي نفسك وتطهرها من الذنوب ومن المعاصي ومن الأعمال السيئة وتسلك الطريق الزاكية التي توصلك إلى الله وإلى جنته وإلى رضوانه.
﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾، أدلك إلى ربك الذي يربيك وينعم عليك ويعطيك، الذي يرعاك ويحفظ. 
﴿فَتَخْشَى﴾، يعني إذا هديتك إليه حصلت لك الخشية منه.
وهذا من نعم الهداية أن تصل للإنسان الخشية .
﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ ما معنى ذلك ؟!
أي جاء بالبينة الدالة على أنه صاحب رسالة . قال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾؛ أي اليد والعصا.
﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ كذب بماذا ؟!
كذب بهذه الرسالة فلم يؤمن بها، وعصى فلم يطع موسى -عليه الصلاة والسلام- جمع بين التكذيب وبين العصيان.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾، يعني تولى يعمل بنشاط وقوة في مقاومة دعوة موسى -عليه الصلاة والسلام- ومقاومة هذا الحق الذي جاء به نبي الله وكليمه موسى -عليه الصلاة والسلام-.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾، ماذا فعل؟ ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾. 
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴿22﴾ فَحَشَرَ فَنَادَى﴾، حشر الناس ونادى فيهم .
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، يُقال: أنه قال هذه الكلمة بعد أن قال لهم أول مرة: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38].
وقال بعض السلف: إن بين الكلمة الأولى والثانية أربعين سنة.
وهذا يدل على أن الطاغية يسلك مسالكَ في الطغيان يبدأ بكلمة صغيرة، ثم تكبر، ثم تكبر، حتى تصل إلى أن يقول لهم مثل هذه الكلمة التي هو أول من يعلم أنه كاذب فيها، ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.
قال الله -عز وجل- بعد أن وصل إلى هذه المرحلة العظيمة من الطغيان، قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ﴾، وهذا يدل على أن عذاب الله ينزل بعد أن يشتد طغيان الناس، إذا اشتد الطغيان وظهر فإن الله -سبحانه وتعالى- يأتي بالعذاب المستأصل الذي لا يُبقي ولا يذر.
﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾، يعني عقوبة الآخرة أي الحياة الآخرة، وعقوبة الدنيا، أما الدنيا فهو أغرقه، وأراه نجاة عدوه وغرقه وذهاب ملكه، وأما الآخرة فله عذاب شديد سواء في قبره وفي آخرته ومنقلبه إذا بُعث يوم القيامة.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾، إن في ذلك الذي حكيناه لكم وحدثناكم به من عقوبة الله العظيمة البالغة على هؤلاء لعبرة أي عظة لمن يخشى، من كان في قلبه خشية يتعظ.وهذه قضية مهمة جدًّا، وهي أن الموعظة لا تُغير ولا تُؤثر إلا فيمن كان في قلبه ماذا؟ خشية. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾.

طبعاً قلنا في بداية السورة أنه حديث عن يوم القيامة ثم فجأة تحول للحديث عن موسى .
وقلنا هناك رابط بينهم

قال في المقطع الثالث من مقاطع هذه السورة: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾.
السؤال الآن: في أول السورة تحدث عن يوم القيامة، وعن المنكرين للبعث، ورد عليهم أبلغ الرد، وبيَّن أن ذلك سيكون ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13﴾ فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ﴾، ثم جاءت قصة موسى مع فرعون، ثم عاد مرة أخرى ليستدل على البعث، فيقول:﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾.

سؤال: كيف جاءت قصة موسى متوسطة بين المقطع الأول والمقطع الثالث؟
إليكم الجواب :

أن قريش كانوا يعرفون من أهل الكتاب قصة موسى مع فرعون، فطبعًا الله -عز وجل- أراد أن يذكرهم بأنه قادر، هو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فكما أغرق الله فرعون وعذبه في الحياة الدنيا، فهو قادر على أن يعيد الكرة، فالتاريخ يُعيد نفسه، فأنتم -يا قريش- أمامكم تاريخ يشهد بذلك وأنتم تعتقدون وعرفتم وسمعتم ذلك من أهل الكتاب، فإياكم إياكم .

وهذا تهديد من الله لهم، وتذكير بأنهم إن كذبوا بالدار الآخرة فعقوبتهم كعقوبة هؤلاء الذين كذبوا بما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام- عندما قال الله: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾، الله -عز وجل- قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾، احذروا أن يأخذكم الله يا من كذبتم بالدار الآخرة وكذبتم بما جاء به محمد أن يأخذكم الله نكال الآخرة والأولى.
ولذلك جاء بعدها فبسط الحديث عن أدلة البعث، وأدلة القدرة فقال: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، يعني عندما أنكرتم البعث ما الذي حملكم على الإنكار؟ هل لصعوبة هذا على الله -عز وجل-؟ تعالى الله عما تقولون علوًّا كبيرًا.
﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، السماء العظيمة التي خلقها الله، الكبيرة الواسعة البنيان، العظيمة القبة، هذه السماء الله -عز وجل- خلقها وخلقكم أيسر بكثير منها، سواء خلقكم ابتداء أو خلقكم على وجه الإعادة بعد الموت، فما الذي تستغربونه على الله؟ أو تستنكرونه من فعل الله -عز وجل-؟
﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، قال مبينًا ماذا حصل للسماء، قال: ﴿بَنَاهَا﴾، ثم بين ما هو البناء الذي حصل قال: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾؛ أي رفع بناءها ومكانها، وسواها أي أحكمها حتى أصبحت بناءً مُحكمًا لا ترى فيها شيئًا من خلل أو عوج أو فطور أو شقوق أو نحو ذلك.
﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾؛ أي أظلم ليلها، جعله مظلمًا، ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ أي جعل لها نهارًا يخرج من رحم الليل.
﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، والأرض العظيمة الضخمة الهائلة التي نحن نعيش فوقها، الله -عز وجل- هو الذي دحاها. 
ما معنى ﴿دَحَاهَا﴾؟ فُسِّرت بعد ذلك بقوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾، دحوها هو أن يكون فيها العمل الذي عمل عليها من شق الأنهار والجبال، ونبات الأشجار، وحصول المراعي، هذا هو دحوها، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
خلق الله الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فدحو الأرض جاء بعد خلق السماء، ولذلك قال هنا: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، صار ضحو الأرض تاليًا لبناء السماء، أما خلق الأرض فهو سابق لبناء السماء.
قال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾، ثم بيَّن حكمة ذلك فقال: ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾؛ أي جعل الله لكم ذلك متاعًا تتمتعون به أنتم، وتتمتع به أنعامكم.
ولاحظوا -يا إخواني- عندما ذكر الماء والمرعى وغيرها سوَّى بيننا وبين الأنعام ليبين أنكم إذا اكتفيتم بذلك فأنتم والأنعام سواء، لكن إن ترفعتم فآمنتم وأطعتم واستجبتم لأمر الله فلن تستووا مع هذه الأنعام.
ولذلك قال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾، فلو اكتفى الإنسان بمجرد المتاع، الأكل والشرب والنكاح وما إلى ذلك فهو بمثابة الأنعام، لكن إن قبل رسالة الله واستجاب لأمر الله، وأطاع الله -جل وعلا- فيما أمره به فإنه يرتفع بذلك إلى الملأ الأعلى.
﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ﴾، الآن يُبين جزاء هؤلاء وهؤلاء بعد البعث، قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾، ما الطامة؟ ما الطامة؟ القيامة، الطامة هي القيامة.
ولها أسماء في القرآن كثيرة: الصاخة، والطامة، والحاقة، والقيامة، وغيرها من الأسماء، وكلما كان الشيء عظيمًا كثرت أسماؤه.
طيب.. من أين جاءت كلم الطامة؟ قالوا: لأنها تَطم ما سواها، أي تغطي على كل شيء سواها من شدة هولها، فلا يسمع لها حس ولا صوت ولا يُرى شيء إلا هي من شدة هولها وعظمتها.
﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى﴾؛ أي في ذلك اليوم يتذكر كل واحد منا سعيه، إن كان خيرًا وإن كان شرًا.
قال: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ﴿35﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى﴾؛ أي في ذلك اليوم تتذكر سعيك إن كان عملًا صالحًا وإن كان سيئًا، وذلك لشدة الهول، فأنت تنسى ما كنت فيه من النعيم، ما فيه من الرزق، ما عندك من الأولاد، ما عندك من الزوجات، أهلك، أقرباءك، كل هذا يُنسى ولا يبقى إلا شيء واحد وهو سعيك، عملك الذي عملته وقدمته.
﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾؛ أي أُظهرت وأُبينت، ﴿لِمَن يَرَى﴾، فيعم الخوف أرجاء المكان، ويهاب الناس أن يحصل لهم هذا المصير، أو يكون لهم هذا المآل -نسأل الله العافية والسلامة-.
﴿فَأَمَّا مَن طَغَى﴾، عاد مرة أخرى إلى ماذا؟ إلى موضوع الطغيان الذي ذكره في قصة فرعون ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.
﴿فَأَمَّا مَن طَغَى﴾؛ أي زاد في الكفران والعناد والعصيان والتكذيب، ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي قدمها وقربها، وجعلها مؤثرة عنده، فلم يستعد للآخرة ولم يعمل لها، وإنما جعل المؤثر والمقدم والمقرب هو الدنيا.
﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أي مأواه يوم القيامة ومآله إلى الجحيم، ولا مآل له سواه.

ثم لما انتهى من عقوبة الكفار والمكذبين انتقل إلى جزاء المؤمنين، وهنا كذلك، قال: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، المأوى أي المآل والمثاب الذي يثوب إليه هؤلاء الكفار.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، من خاف مقام الله أي صار عنده هيبة من الله -عز وجل- وخوف من لقاء الله -عز وجل- يخاف إذا لقي الله أن يلقاه مكذبًا، وأن يلقاه عاصيًا، وأن يلقاه ساعيًا في الباطل كما حصل من فرعون الذي أدبر يسعى وحشر فنادى من أجل أن يُجلِب على الحق بخيله ورجله.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾، نهى نفسه عما تهواه، طبعًا الذي يهواه الإنسان شيئان:
- إما أن يهوى شيئًا أباحه الله له.
- وإما أن يهوى شيئًا قد حرمه الله عليه.
الهوى ليس بذاته مذمومًا، ولكن لكونِ كثيرٍ من الهوى مذمومًا؛ صار إطلاق الهوى في القرآن غالبًا على هذا المذموم، وإلا أنا أهوى الطعام، أهوى المنام، أليس كذلك؟ هذا الهوى لا يلام الإنسان عليه، لأنه هوًى يوافق ما أباحه الله وما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لكن المقصود هنا: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾؛ أي الهوى الذي يخالف أمر الله ويكون فيه معصية لله.
وسمي الهوى -كما يقول بعض العلماء- سمي الهوى؛ لأنه يَهْوِي بصاحبه في دَرَكاتِ الشقاء والسفول والباء.
قال: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
إذن:
- أن تخاف مقام الله، وإذا خفت مقام الله؛ فإنك لا يمكن أن تتأخر عن أمر أمرت به، ولا يمكن أن تبقى في مكان نُهيت عنه.
ثم ختمت السورة بالسؤال أو بطرح مشكلة دائمًا يطرحها الكفار على النبي -عز وجل- عندما يذكرهم بالقيام وبالجزاء والبعث، يقولون له: متى الساعة؟ هل تخبرنا عن القيامة؟ متى الساعة؟ ويأتي الجواب صريحًا وواضحًا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾، متى موعدها؟ متى تأتي؟
قال الله -عز وجل-: ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾، ليس شأن الساعة وقيامها من شأنك، ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43﴾ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾؛ أي مستقرها ومنتهى علمها إلى من؟ إلى الله؛ لأن الله قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَينَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ [لقمان: 34]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف: 187]، والمقصود بالساعة إذا وردت في القرآن: أي وقت قيام الناس من قبورهم.
قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿42﴾ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43﴾ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾؛ أي علمها إلى الله -عز وجل- هو الذي يعلمها ويعلم متى تقوم.
﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ﴾، المهمة التي بعثناك بها، وأرسلناك لتحقيقها هي: النذارة. 
فإن قلت: لمَ لم يقل: إنما أنت منذر ومبشر؟ لأن الحديث هنا عمن؟ عن قوم يكذبون، وعن قوم قد عصوا وكذبوا ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم صفة النذارة وأفردها، وإلا فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نذير وبشير.
قال: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾، طيب هنا سؤال، وهو سؤال مهم جدًا: الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذر لكل أحد، للثقلين الإنس والجن، المؤمن والكافر، فلماذا خصَّ من يخشاها؟ قال: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾؟
لكون الموعظة تنفع من يتذكر ويخشى الله -عز وجل- بخلاف من لا يتقي ولا يخشى فهو لا تنفعه النذارة ولا البشارة .
وهذا مثل قول الله -عز وجل- في سورة "ق" ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، مع العلم أن القرآن يذكَّر به الجميع، لكن الذي يخاف الوعيد هو الذي ينتفع، ولكونه ينتفع يُقال: ذكره بالقرآن، أو انذر بهذه القيامة من يخشى النار أو من يخشى الله -سبحانه وتعالى-.
﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴿45﴾ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾، يُصور الله حالهم عندما يرون القيامة التي كذبوا بها، ويرون الساعة التي أنكروها، ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.
يقولون -وهم يتذكرون ما سلف من حالهم وحياتهم وغناهم وعيشهم الطويل في الدنيا-: والله ما لبثنا إلا سويعات، كأننا لبثنا جزءًا من النهار، أوله أو آخره؛ لأنَّ هذا الذي نمرُّ به يا إخواني كله يصبح شيئًا يسيرًا في عالم الماضي، أو في عالم المتذكر لما وقع منه في الدنيا.

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعني وإياكم بالقرآن، وأن يجعلني وإياكم جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.

ليست هناك تعليقات: