الخميس، 27 نوفمبر 2014

اللقاء الواحد والعشرون | تدارس |

'

لقاءات مجموعة | تدارس 📚 |
 في تطبيق لاين [line] 
الدرس الواحد والعشرون :

سورة الغاشية




وهذه السورة مكيَّة بالإجماع ولم يُختَلَف في كونها مكيَّة أو مدنيَّة، بل هي مكيَّة.
يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾.
"هل" هنا يراد به ماذا؟
 يراد بها التهويل والتفخيم.
كلمة ( هل )هل جاء هذا الحديث الفخيم العظيم وهو حديث الغاشية؟
والغاشية اسم من أسماء يوم القيامة، لأنها تغشى الناس بهولها، وضجيجها، وصوتها، ورعبها المرجف الذي لا يدع شيئًا من الأفئدة إلا ملأه بالخوف والرهبة.
وقد قال بعض المفسرين: إن "الغاشية" هنا اسم للنار، ولا مانع من ذلك، لا مانع أن يكون اسمًا من أسماء النار، لكن أكثر المفسرين من السلف على أن الغاشية هي القيامة.
قال الله -عز وجل-: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾، وقد جاء للقيامة في القرآن أسماء، الحاقة، والقارعة، والصاخة، والطامة، والقيامة، والغاشية، ويوم التناد، وغيرها من الأسماء التي ذكرت ليوم القيامة . 
قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾، هذا الخشوع مخالفٌ لما كان عليه في الدنيا، فإنه كان في الدنيا لا يعرف الخشوع، فرح، وضحك، ولعب، ولهو، فيأتي يوم القيامة ليكون بضدِّ حاله في الدنيا.ولذلك بعض الناس يقول: يا أخي ما تنظر إلى هؤلاء الذين تصورهم لنا شاشات التلفاز من الغربيين الكفار، دائمًا مبتسمون ضاحكون مستبشرون مسرورون؟
نقول: نعم، وهذا السرور الذي يحصل لهم إنما هو مما يعجله الله لهم من طيبات الدنيا، ولكن يدخر لهم الذل كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: 45]، جزاءً وفاقًا.
بينما المؤمن نجده دائمًا خائفًا، حتى وهو يعمل الصالحات تجده خائفًا، لماذا؟ يخشى أن يُردّ عليه عمله، يخاف ألا يكون أخلص في عمله، يخاف ألا يُتقبَّل منه، وإذا أذنب بقيَ خائفًا، لأنه يخشى أن يؤاخذ بذنبه، وألا يقبل الله توبته.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، ولذلك لا تكاد تجد المؤمن إلا يحاسب نفسه، ما أردت إلى هذا؟ ماذا قصدت بهذه؟ دائمًا يحاسب نفسه.
قال الله -عز وجل-: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾

أي في يوم القيامة وفي النار هذه الوجوه وهؤلاء الناس الكفار يعملون عملًا كثيرًا هو جزء من جزائهم وعذابهم، وينصبون نصبًا شديدًا، قد يكونون في الدنيا ممن ارتاح واستلذ، وطابت له الحياة، لا يصوم، لا يصلي، لا يقوم، لا يحج، لا يأمر بمعروف، لا ينهى عن منكر، لا يجاهد في سبيل الله، مرتاح؛ لأن هذه الأعمال فيها مشقة، ولها ضريبة لا نشك في ذلك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يجعل عوضها راحة وسعادة أبدية يلقاها المؤمن إذا بُعث يوم القيامة.
فقوله: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ يراد بها هذا العمل والمشقة الهائلة التي تدخر لهؤلاء في يوم القيامة وفي النار، فهم في النار يجرون السلاسل، ويعملون أعمالًا،
قال: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي تُدخَل.
وفي قراءة ﴿تُصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي نارًا شديدة.
﴿حَامِيَةً﴾؛ أي حارة شديدة الحرارة.
﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾؛
آنية أي يؤتى لها بشرابٍ من عين حارة شديدة الحارة قد بلغت من الحرارة منتهاها،
قال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾ ما معنى ضريع ؟!
والضريع عند العرب يُطلق على شجرة اسمها "الشِّبرق"، شجرة من الشوك الذي لا يكاد يؤكل ولا يُنتفع به، فإن من الشوك ما يؤكل ويُنتفع به، تنتفع به البهائم والإبل، وهذا النوع من الشجر لا يُنتفع به، فهذا ما سيكون للكفار، لكن ليس بين ما في النار وما في الدنيا إلا الاسم فقط، وأما الحقيقة فمختلفة تمامًا، كما أن ما في الجنة وما في الدنيا من النعم ليس بينها من الاشتراك إلا في الاسم فقط، وإلا فالحقيقة مختلفة تمامًا.
قال: ﴿لَا يُسْمِنُ﴾؛﴿ولَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ فماهو وصف لماذا ؟!
قال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾، ثم وصفه بقوله: ﴿لَا يُسْمِنُ﴾؛ أي لا ينفع البدن بالسِّمَن ولا يغذي، ﴿ولَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾، لا يدفع الجوع.
قال الله -عز وجل-: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾ 
وهذا هو القرآن مثاني .
وفي سورة الغاشية حديث عن فريق فما هما ؟!
- فريقٍ من أصحاب الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى نارًا حامية.
- وفريق آخر من أصحاب الوجوه الناعمة التي أعدَّ الله -عز وجل- لها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال الله -عز وجل-: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾، هذه على طريقة القرآن في المثاني، وهي أنه -سبحانه وتعالى- ذكر عذاب الكفار، وذكر في مقابله نعيم أهل الجنة، فوصف الوجوه لأنها إذا ظهرت عليها أثر النعمة والسرور دلَّ ذلك على أن باقي الجسم والنفس والقلب كلها في خير وحبور.
﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾؛ ما معنى هذه الآية ؟!
أي لعملها وكدها الذي كان منها في الدنيا راضية، يعني لجزاء سعيها راضية، فهي الآن ترى جزاء السعي فترضى رضًا شديدًا، الرضى هو منتهى الفرح بالنتيجة.
قال: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾؛ أي رفيعة، وليست سافلة.
﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾، وما معنى لاغية ؟!
لا تسمع فيها كلمة لاغية باطلة مؤذية من اللغو الذي لا ينفع، بل قد يُضر الإنسان سماعه، بل كل الكلام الذي يُسمع فيها كلام طيب، وكلام حق.
قال: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾؛ أي عيون، فكلمة "عين" هنا اسم جنس يدل على العيون التي في الجنة.
قال: ﴿جَارِيَةٌ﴾، ليست ماكثة وباقية لتأسن ويُصبح فيها الآفات وغيرها، ولكن جارية، وهذا ألذ حتى في النظر.
وهذا من تمام نعيم الجنة
حتى أنها ذكرت وصف للأسرة
قال: ﴿وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ﴾، أكواب مُعدَّة للشراب موضوعة بين أيديه، متى أرادوا أن يشربوا فإنهم يجدون الشراب، ويجدون الكوب الذي يملئونه بما يشاءون من أنواع الأشربة.
قال: ﴿وَنمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾، فما النمارق ؟!
النمارق جمع نمرقة، والنمرقة هي الوسادة.
وانظري كيف يصف الله هذا النعيم
قال: ﴿وَنمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾؛ أي قد صُفَّت صفًّا جميلًا بديعًا رائعًاً 
قال: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾؛  فما معناها ؟!
قال: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾؛ أي بُسُط.
﴿مَبْثُوثَةٌ﴾؛ أي قد وُزِّعَت في أماكن متعددة، أينما تريد تجلس تجد هذه الزرابي، وتجد تلك الوسائد.
م قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر النعيم قال: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ﴾، الاستفهام هنا يراد به ماذا ؟!
يراد به التبكيت، يعني هذه نذارة الله لكم، وهذا ما وعدتم به، أو حُذِّرتم منه، ما الذي يجعلكم تكفرون؟! أفلم تروا إلى قدرة الله -عز وجل- المبثوثة بين أيديكم؟!
يعني التبكيت يعني مزيد من التندم 
وبدأ بالإبل لقربها منهم، ولكثرة ما فيها من الأعاجيب، فإنها مليئة بالأعاجيب، يعني لو أردنا أن تحدث عن الإبل وما فيها من الأعاجيب لاحتجنا إلى ساعات، وما زال العلماء والعلم إلى اليوم يكتشف في الإبل أشياء عجيبة جدًّا، صبرها على العطش الطويل، كونها تحمل الأثقال وهي جالسة باركة ثم تقوم بها، كونها يُشرب حليبها، يؤكل لحمها، يُركب ظهرها، تهتدي إلى المكان الذي رجعت منه، تعرف صاحبها، تحقد فتنتقم ولو بعد سنين، تعرف الذي يُحسن إليها فتحسن إليه، وأعاجيبها لا تكاد تنتهي.
قال: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾، مَن الذي خلقها هذه الخِلقَة؟ إذن فما الذي يدعوهم الإنكار البعث، وإنكار ما تأتي به يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من العجائب في هذا القرآن والحقائق التي لا يجوز إنكارها، ولا يمكن لعاقل أن يشكَّ فيه
قال: ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾؛ أي جُعلت منصوبة عالية.
﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾، فإن قيل: هل الأرض مسطحة؟ قلنا: نعم، هي في نظرنا مسطحة، وإن كانت في جملتها كرويَّة مدوَّرة، لكن في النظر نراها أمامنا سطحًا واضحًا ظاهرًا.
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ﴾ لمن هذا الخطاب ؟!ثم قال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ﴾، يا محمد، أنت بعد أن أقمت الحجج، وبينت الدلائل، وذكرت المصائر والجزاء، ذكر ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾، هذه مهمتك، ليس عليك أن تخلق الهداية في قلوب هؤلاء؛ بل عليكَ أن تذكرهم، وليس عليك شيء آخر.
﴿لَسْتَ عَلَيْهِم بمُسَيْطِرٍ﴾، لستَ قهَّارًا لهم تجبرهم على الإيمان، وما أنت عليهم بجبار.
﴿إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾، لكن مَن تولى وكفر، ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾
ثم هدَّد بقوله: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾، مرجعهم ومصيرهم إلينا، فنحاسبهم على القليل والكثير، والصغير والنقير والقطمير.
قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾، نحن الذين سنتولى حسابهم، وسيعلمون ماذا سنفعل بهم .
وبهذا نصل إلى ختام هذا الدرس، أسأل الله أن ينفعني وإياكم به.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الجمعة، 14 نوفمبر 2014

اللقاء العشرون | تدارس |

'

لقاءات مجموعة | تدارس 📚 |
 في تطبيق لاين [line] 
الدرس العشرون :

سورة الأعلى 


سورة الأعلى
هذه السورة تسمى سورة الأعلى، وسورة سبِّح.
جمهور المفسرين على أنها نزلت بمكة .
ويدل على ذلك حديث البراء بن عازب أنه قال: "أول مَن قدم علينا مصعب بن عمير في جماعة، ثم قدم فلان وفلان وفلان، ثم قدم عمر في عشرين، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فما فرح الناس بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندما جاء كنت قد حفظتُ سورة سبِّح في سِوَرٍ مثلها".
هذا يدل على ماذا؟ على أن سورة سبِّح قد نزلت وجاء بها الصحابة إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
ومن معناها ومضمونها نستدل على أنها كانت سورة مكية.
﴿سَبِّحِ﴾، هل هذا خطاب لرسول الله أو لكل مَن يقرأ هذه الآية؟ يصلح أن يُقال هذا، ويصلح أن يُقال هذا، ولا إشكال في ذلك -إن شاء الله-.
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، 
هل المُسبَّح الاسم أو الرب؟ الحقيقة أن المسبَّح هو الرب، المنزه هو الرب -سبحانه وتعالى-، وإنما جيء بالاسم ليبيِّن أن التسبيح لا بد أن يكون مذكورًا فيه الاسم، وليس المقصود تسبيح القلب، بل المقصود تسبيح القلب مع تسبيح اللسان.
 ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾؛ أي سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمَه، وهذه فائدة نفيسة، وهي أن التسبيح لا ينبغي أن يقتصر أمره على القلب، بل لا بد من نطق اللسان، ولذلك جاء قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾.
جاء بعد بذلك بقوله ( الأعلى )
ليدل على ماذا ؟!
وجاء بوصف "الأعلى" ليدلَّ على أن لله -عز وجل- العلو كله، العلو الكامل، ولم يقيِّده بعلو معين ليدل على أن له العلو بجميع أنواعه، علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر .
العلو ثلاث أنواع ماهي ؟!
ثلاث أنواع للعلو.
علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.
علو الذات: وهو أن الله -سبحانه وتعالى- مستوٍ على عرشه فوق سماواته، بائنٌ من خلقه، يُشار إليه بجهة العلو، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للجارية: «أين الله؟». قالت: في السماء. قال لصاحبها أو سيدها: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة».
- وعلو القهر: وهو أنه مستعلٍ على خلقه، قاهر لهم.
- وعلو الذات: وهو أنه فوق السماوات -سبحانه وتعالى-.
قال بعدها جل في علاه واصفًا نفسه: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾؛ أي خلق كل شيء.
﴿فَسَوَّى﴾؛ أي جعله مناسبًا لما خُلق له.
يعني مثلًا: خلق العينين وجعلهما في الرأس من أجل أن تبصر الأشياء، لو جعل العينين مثلًا في الرجلين لكان الأمر فيه مشقة، وكذلك جعل العظام القويَّة في الأسفل لتحمل البدن، هذا من التسوية، جعل كل شيءٍ معتدلًا مناسبًا لما خُلِقَ له.
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾
قدَّر كل شيء فهداه لما يُصلحه .
ولو لاحظتم في الماعز مثلاً
تجدون أن صغارها تخرج من بطن أمها، وفي دقائقَ تَهتدي إلى ثدي أمها، علمًا بأن أمها لا تلقمها ثديها، وأنها تهتدي إلى الثدي، وتعرف مكان اللبن، دون أن ذلك يكون بتعليم من الأم فسبحان الذي هداها .
بل انظروا إلى الجنين عندما يخرج من بطن أمه، من حين ما تلقمه الأم الثدي يبدأ بالمصِّ، مَن الذي علمه أن يمصّ؟ لماذا لا يوضع الطعام أو الشراب في فمه فيبتلعه؟ لا، يمصُّه مصًّا قويًّا. مَن الذي هداه لذلك؟
الله جل في علاه ..
قال الله -جل وعلا: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾
ما معنى هذه الآيه ؟!
أي النبات والكلأ الذي يكون في البراري والبوادي.
قال: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾، ما معنى هذه الآيه ؟!
جعل هذا المرعى الأخضر، ﴿غُثَاءً﴾؛ أي يابسًا، ﴿أَحْوَى﴾، قد اسودَّ من اليُبسِ.
وهذا فيه تذكير بماذا؟ 
تذكير بأمر البعث، لأن أمر البعث يكون كما يكون حال هذا النبات في البراري، يصل إلى حالة اليُبس، ثم ينزل عليه المطر في الموسم القادم فيعود أخضر، كذلك أنتم يا بني آدم، تموتون فتُبْلَون فيبعثكم الله -سبحانه وتعالى- فتعودون كما كنتم.
بعد ذلك انتقل إلى وعدين كريمين لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- قال فيهما: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾ .
يا محمد هذا وعدٌ منَّا أننا نُنزل عليك هذا الكتاب الذي لا عهد لك به، فتقرأه فلا تنسى منه شيئًا، سنقرئك يا محمد فلا تنسى شيئًا من هذا القرآن الذي اقرأناكَ إيَّاه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعالج من التنزيل شدَّة، وكان يقرأ وجبريل يوحي إليه هذا القرآن .
 ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، يعني إلا ما شاء الله أن تنساه .
قال: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾، فهو -سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما نجهر به وما نخفيه.
وهذا يدعونا إلى ماذا ؟!
عندما نعلم أن الله يعلم الجهر والخفاء ؟!
نعم تقوى الله ومراقبته في السر والعلن والمخافة في للخلوات
إذا كان الله يعلم ما نخفيه فهو قطعًا يعلم ما نجهر به، فما الذي جعله يقول: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾؟ لماذا لم يكتفِ بقوله: "إنه يعلم ما يُخفى" مثلًا، لماذا قرَن بينهما؟
ليبين لنا الله أن علمه بالجهر وبما يُخفى على قدر سواء ، ما نخفيه وما نسره في أنفسنا وما نعلنه، كلها بالنسبة له سواء -سبحانه وتعالى-.
البشر لا يتساوى علمهم بالجهر والخفاء 
فهم يدركون الجهر والعلن من الشيء .
لكن قد لا يدركون الخفاء .
لكن الله علمه بالجهر والخفاء متساويان .
الوعد الثاني لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- قوله: ﴿وَنيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾، هذا وعدٌ كريم لرسولنا -صلى الله عليه وسلم-، وهو أن الله سيهيِّئ له أسباب اليُسر، الأسباب الموصلة إلى الجنة بيسر، وأسباب الحياة الكريمة بيسر أيضًا، ومن ذلك يُسر دينه -عليه الصلاة والسلام-، فدين محمد يسير وسهل وسمح.
 ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، أمره الله -عز وجل- أن يُذكر، بعد الوعيد أمره بهذا الأمر، وهو أن يذكر.
والتذكير هو أن يقول أو يأمر بالشيء ويذكر الناس به، ويُعلمهم إياه مرة بعد أخرى، التذكير يكون بتعليم الشيء الذي يجهل الناس، ويكون أيضًا بتكرار الشيء الذي قد عُلموه، كل ذلك يُسمَّى تذكيرًا، فذكر.
هل هذا معناه أن الذكرى إن لم تنفع فلا يذكر ؟!
(فذكر إن نفعت الذكرى )
الآيات تدل على أن الذكرى نافعة بكل حال؛ لأنها تكون على الذي يخشى تنفع بالاتباع، والذي لم يخشَ تنفع بإقامة الحجة وبراءة الذمة.
﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، 
قال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، هذا وصفٌ لمَن يتذكر وهو أنه يخشى، فكل مَن وقعت الخشية في قلبه والخوف من الله -عز وجل- والعلم بالله؛ لأن الخشية تختلف عن الخوف من جهة أن الخشية خوف بعلم، وأما الخوف فلا يلزم فيه أن يكون بعلم.
قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، مَن يخشى الله -سبحانه وتعالى- سيتذكر وينتفع بما يسمع من الموعظة والأمر والنهي والعلم.
وهذا هو حال من ينتفع بالذكرى
ثم قال بعدها
﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾؛ أي يبتعد عنها ويجانبها فلا يقبلها ولا يستمع إليها.
﴿الْأَشْقَى﴾: الذي كتب الله عليه الشِّقوَة.
نعوذ بالله من ذلك .
قال: ﴿الَّذِي يَصْلَى﴾؛ أي يدخل ويقاسي حرَّ النار.
﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾، وهي نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
وهل قوله: ﴿الْكُبْرَى﴾ يدل على أن هناك نارًا قبلها؟ 
هل قبل نار التي في يوم القيامة نار ؟!
نعم .
وهي النار التي تنال الإنسان في قبره؛ لأن مَن يُعذَّب في قبره يُفتَح له بابٌ إلى النار، فيأتيه من سُمومها وحرها فيقول: يا رب لا تقم الساعة، لا تقم الساعة، لِما يعلم من أن عذابه إذا بُعثَ أشد من عذابه وهو فيقبره.
قال الله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولَا يَحْيَا﴾،
إذا كان لا يموت ولا يحيى، إذن ما حاله؟ لا هو ميت ولا هو حي، وكل الموجودات إما أن توصف بالموت أو توصف بالحياة، وليس لها وصف ثالث، فما معنى هذه الآية؟
يعني لا هو ميتٌ فيستريح، ولا هو حيٌّ فيتنعم ويتلذذ بحياته، فلا هو من هؤلاء، ولا هو من هؤلاء.
وهذا من شدة العذاب فلا يموت ويرتاح من هذا العذاب ولا هو حي مستريح من هذه النار فينعم .
قال الله -عز وجل- بعد ذلك: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، هذا هو المقطع الأخير في هذه السورة الكريمة .
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾، والفلاح هو الفوز والظفر بالمطلوب، ومنه سميَ "الفلاح" يفلح الأرض لأنه ماذا؟ يفوز بالثمرة والزرع والغرس، ونحو ذلك.
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي فاز وظفر بالمطلوب.
﴿مَن تَزَكَّى﴾؛ أي مَن زكَّى نفسه وطهرها.
التزكية تكون بأمرين ما هما ؟!
التزكية بأمرين :
- تخلية.
- وتحلية.
تخلية كيف ؟!
تخليه من الشرك، من البدعة، من المعصية ، تطهير للنفس من الذنوب .
ثم بعد ذلك التحلية كيف تكون ؟!
بعد ما طهر القلب والجوارح من الذنوب والمعاصي والشرك والبدع .
يُحلى بالتوحيد والإيمان، وبالسنة، وبالطاعة والأعمال الصالحة، ولا بد من ذلك، وإلا فلا تزكية.
وهذه هي التحلية .
قال: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، طهر نفسه من الذنوب والمعاصي، وزكَّى نفسه بالإيمان والتوحيد والطاعة.
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾؛ أي أكثر من ذكر اسم الله -عز وجل-.
﴿فَصَلَّى﴾، جعل الصلاة مبنية على ذكر اسم الله ليبين لنا أن الذي يذكر الله ويعظم الله في نفسه، ويكثر من ذكره بلسانه يدعوه ذلك إلى أن يستكثر من الصلاة، وتستجيب للصلاة أعضاؤه، ويستجيب له بدنه .
﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾؛ ما معناها ؟!
أي تقدمون وتختارون الحياة الدنيا الفانية العاجلة، لما طُبع فيكم من حب العاجل.
﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يعني كيف تؤثرون الدنيا الفانية الأولى العاجلة، والآخرة قد جمعت بين أمرين عظيمين:
- الأول: أنها خير، خير في ذاتها.
- والثانية: أنها باقية.
ولذلك قال أحد السلف: "لو كانت الآخرة خزفًا يبقى، والدنيا ذهبًا يفنى، لكان حريًّا بالعاقل أن يأخذ الأبقى، فكيف والآخرة ذهب يبقى، والدنيا خزف يفنى؟!"
من الأشياء العجيبة التي لا يجوز أن تذهب عن أذهاننا، وهي أن الآخرة خير في ذاتها وباقية لا نفاد لها، ومع ذلك الناس يؤثرون الفانية التي فيها المتاع الذي امتلأ بالمنغصات والمنكدات والبلايا والرزايا.
قال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾؛ أي هذا الوارد أو المذكور.
﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾، مذكور في الصحف الأولى التي سبقت هذه الصحيفة التي أنزلت على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وهي القرآن.
 ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾، ذكر منها صحف إبراهيم، وهي الكتاب الذي أنزل على إبراهيم تسمى صحف إبراهيم، ولا يُعرف لها اسم آخر غير هذا، وموسى وهو التوراة.
وبهذا نكون انتهينا من سورة الأعلى
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يفقهنا في الدين، ويعلمنا تأويل الكتاب المبين، ويجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.




اللقاء التاسع عشر | تدارس |

'

لقاءات مجموعة | تدارس 📚 |
 في تطبيق لاين [line] 
الدرس التاسع عشر :

سورة الطارق



هل سورة مكية أو مدنية ؟!
هذه السورة مكية
لم يختلف الناس في تسميتها سورة الطارق، وفي بعض الكتب يقال:"والسماء والطارق" وهذا قريب أيضًا، وليس اسمًا مغايرًا، وهذا مأخوذ من اللفظ في الآية الأولى ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2 النَّجْمُ الثَّاقِبُ 
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ) أقسم الله بالسماء .
ثم قال: ﴿ وَالطَّارِقِ ﴾، هذا قسم بالطارق، ما هو الطارق؟
الطارق جاء تفسيره في الآية الثالثة هو النجم
هذا من تفسير القرآن بالقرآن .
في قوله : ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾ 
حسناً ما معنى هذه الآية ﴿ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴾  ؟!

 أي النجم الذي يثقب الظلام بضيائه.

ثم بيَّن المقسَم عليه فقال: ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ 

أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظها، ويكتب أعمالها، ويدوِّن كل صغير وكبير عليه،

قال: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، هذه دعوة للإنسان، بعد أن انتهى من العوالم العلوية السماء، والطارق النجم الثاقب؛ انتقل إلى ذات الإنسان تذكيرًا له.

﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، حتى لا يتكبر، وحتى يعلم دقة تدبير الله وتقديره.

﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، من أي شيء خلق؟

قال الله -عز وجل-: ﴿ خُلِقَ ﴾ أي الإنسان ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ 

 ﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ، ﴿ خُلِقَ  فالله -عز وجل- هو الذي خلق، أي أو جده وأنشأه وأخرجه ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾.

وابن آدم -كما نعلم- مخلوق من الماء، وهذا الماء من صفته أنه دافق، يعني يخرج باندفاع وقوة.

﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ، هذا الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب.

الصلب: هو أسفل الظهر، أسفل العموم الفِقري يُسمى صلبًّا.

والترائب: هي عظام الصدر .

وهنا نقول : هل المقصود أن هذا التكوين للماء للرجل وحده أو للرجل والمرأة؟ ليس في الآيات ما يدل صراحة على أنه للرجل وحده، ولا للرجل والمرأة.

وبالنظر إلى الآيات نجد أن فيها إشارة أن هذا من الرجل؛ لقوله: ﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾، والدفق هو من صفة ماء الرجل.

أي يخرج من الرجل من المنطقة التي تكون بين صلبه وترائبه، 

 ثم قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ، 

"إنه" أي: الله -بلا شك .

﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ اختُلف فيها، هل هي على رجع الإنسان، أو على رجع الماء الدافق؟

إذن العلماء -رحمهم الله- عندهم خلاف في هذا على قولين:

- ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ رجع الإنسان.

- أو في هذه الآية ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ على رجع الماء.

ومما يؤكد هذا: أن الآية جاءت لتستدل على أمر جاء القرآن به كثيرًا، وهو من قضايا الخصومة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والمشركين.

إذا قلنا: "إنه على رجع الإنسان لقادر" ما معنى ذلك؟ القضية التي اختصم فيها النبي مع المشركين ما هي؟ قضية هل فيه يوم آخر أو ليس هناك يوم آخر.

أما هل الله يقدر على أن يرد الماء أو لا يرده، لم يختصم فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين، فبانَ لنا بذلك أن القضية التي جاءت الآيات لتقريرها هي القضية التي وقعت فيها الخصومة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، وهي قضية البعث، هل سيكون أو لا يكون، وهل الله قادر عليه أو غير قادر -تعالى الله عما يقول المشركون علوًّا كبيرًا- واضح هذا المعنى؟

ولذلك نحن نقول: من عادة القرآن الاستدلال على البعث والاعتناء بأمر البعث، ومتى جاءت الآية مختلفًا فيها بين أن يكون جاريًا على العادة أو مخالفًا لها، قلنا: لا؛ لأن يجري على العادة القرآنية أولى.

وبهذا نقول: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي الإنسان، ﴿ لَقَادِرٌ ﴾، قادر سبحانه أن يرجعه.

قال: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾، ما معنى ﴿ تُبْلَى ﴾؟

تُختبَر ويُنظَر إليها كما قال الله -عز وجل- في سورة العاديات: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ  

أي تُكشَف وتُختبَر ويُنظَر إليها، ويُميَّز بين ما هو في صالح الإنسان وما هو ضده، ما هو خير وما هو شر، ما هو إيمانٌ وما هو كفر، ما هو صدقٌ وما هو كذب، إلى آخره، ﴿ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾.

وهذه الآية ينبغي للمؤمن أن يخاف منها.

لأنه سيأتي علينا يوم تُختبَر فيه سرائرنا، تُختبَر فيه نيَّاتنا وما في قلوبنا، هذا شيء مهول، هذا شيء عظيم ينبغي علينا جميعًا أن ننتبه له.

ولذلك على كل المسلم ومسلمة أن يلزم طريق الصدق، يلزم طريق الصدق والوضوح وعدم النفاق والمواربة، وأن يقول بلسانه شيئًا لا يعتقده بقلبه، إلى آخره.

﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولَا نَاصِرٍ ﴾،

أي في ذلك اليوم ليس له من قوة يدفع بها عذاب الله -عز وجل-، ولا ناصرٌ من غيره يدفع عنه ما حلَّ به من البلاء، وهذا في غاية التهديد لبني الإنسان.

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ هذا قسم جديد .

﴿ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ ما معنى الرجع ؟!

ذات المطر، المطر سُمِّيَ رجعًا؛ لأنه يرجع مرةً بعد أخرى، المطر ما نزل مرَّة واحدة وانتهى، بل إنه يعود إلى الناس، ويعود بصفة الرجوع .

﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾،

 هذا قسمٌ آخر بالأرض ذات الصدع؛ أي ذات التشقق، إذا نزل عليها المطر تشققت بالنبات؛ لأن النبات يكون مغروسًا في جوفها، فإذا نزلت عليه قطرات المطر شقَّ الأرض حتى خرج فوق ظهر الأرض.

فالقرآن ينزل من السماء كنزول المطر من السماء، وينزل على القلوب التي في أجواف العباد، فمن القلوب ما ينتفع بهذا القرآن ويتشقق بالنبات، يعني ويتشقق بالمنفعة، فيتذكر ويتعظ ويخشى.

ومن القلوب ما هو صلدٌ لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، ولا يأبه لشيء .

فهذا مثلٌ للقرآن، ولهذا جاء بالقرآن هنا فقال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾ .

قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ ﴾ أي القرآن ﴿ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾، قولٌ يفصل بين الحق والباطل، فالقرآن من أوله إلى آخره جاء للفصل لبيان الحق، حتى فيما اختلف فيه بنو إسرائيل من كتابهم وأخبارهم جاء القرآن ليفصل بينهم .

﴿ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ أيضًا ليس فيه شيء جيء به للترفيه والحكايات والأحاجي والألغاز والتسلية، كل ما فيه ليس هزلًا، بل جدٌّ كما قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، فهذا القرآن كله جد، جاء بالحق الذي لا هزلَ فيه، ولا مِريةَ فيه، ولا لعب فيه، ولا لهو فيه، ولا شك فيه، من أوله إلى آخره، ما من كلمة وُضِعت ولا آية أُنزلت إلا وقد جاءت بالحق البيِّن الذي لا مرية فيه  .

قال: ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ أي: هؤلاء الكفَّار ﴿ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴾ أي كيدًا عظيمًا، لكن الله يردُّ على كيهم بكيده، 

فيقول: ﴿ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾، وجعله نكِره ليعظِّمه، وكيد الله خيرٌ من كيدهم،

 ﴿ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].

- وهل نثبت صفة الكيد لله؟

نقول: صفة الكيد تكون مرادًا بها المدح، ومرادًا الذم.

فيراد بها المدح عندما يكون في مقابلة كيدٍ، يكون ممدوحًا مَن يكيد لمَن يكيد.

ولذلك ما جاءت في القرآن إلا على وجه المقابلة، الاستهزاء، الخداع، المكر، الكيد، هذه الصفات جاءت في القرآن على وجه المقابلة.

يكون ممدوحا أن يكون رداً على كيد الكائدين

قال العلامة العثيمين في المجموع الثمين: لا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيدا، فلا يوصف الله تعالى به وصفا مطلقا، والمكر التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر، فإن قيل: كيف يوصف الله تعالى بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟ قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله تعالى به على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: إن الله ماكر.

قال الله -عز وجل-: ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا ﴾، لا تستعجل عليهم -يا محمد- فإن الله -سبحانه وتعالى- ما يقدر ما يقدر، وما يجعل هؤلاء يفعلون ما يفعلون إلا لأمر يريده، فعليك بالصبر والتريث وعدم الاستعجال، لا تستعجل لهم، مهّلهم، فسيأتي أمر الله -عز وجل- فيهم، أمر الله القدري بأن ينزل فيهم عقوبته وبأسه، وأمر الله الشرعي عندما يأذن لك بقتالهم، فتستأصلهم ولا تبقي منهم.

وبهذا نكون أنهينا تفسير سورة الطارق  .

 



اللقاء السابع عشر ، الثامن عشر | تدارس |

'

لقاءات مجموعة | تدارس 📚 |
 في تطبيق لاين [line] 
الدرس السابع عشر ، الثامن عشر :

سورة البروج 



سورة البروج
مكية أم مدنية ؟!
مكية وظاهر موضوعاتها موضوعات السورة المكية 
والمكية قلنا في الغالب تتحدث عن ماذا ؟!!
تقرير العقيدة وترسيخها وتبيينها
لانه في العهد المكي لم تكن هناك تشريعات
ولم تفرض العبادات ولا غيرها من الأحكام 
فجاءت هذه السور كلها تبين العقيدة وركزت ع اليوم الآخر والبعث والنشور لما يناسب حال المشركين في ذاك الوقت
هذه السورة افتتحت بأربعة أقسام، قال الله -عز وجل- فيها: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿2﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾
ولكن أين المقسم عليه ؟!!  جواب القسم ؟!
ولم يُذكر المُقسَم عليه، وهذا كثير في القرآن، أن يؤتى بالقسم ولا يُذكر جواب القسم.

لأن الجواب يكون معروفًا من القسم، أو معروفًا من السياق، وقد يكون هذا في بعض الأحيان أهْيَبُ للجواب، يعني كأن تقول لعدوك الذي تخاصمه: والله، ثم والله، وتسكت، أي: لأقتلنك، أو لأقبضنَّ عليك، أو لأوذينَّك، أو شيئًا من هذا القبيل.
والجواب يُؤخذ من معنى القسم، فلما قال: ﴿واليوم الموعود﴾، عرفنا أنه يُريد به القسَم على البعث .
 ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ ما البروج؟ 
ذات المنازل المعروفة للكواكب؛ لأن الشمس والقمر تجريان في منازلَ معروفة، ولها أسماء معروفة عند أهل الفلك، فتُسمى هذه بروجًا.
أو يُقال: إن البروج هي النجوم التي نَراها نحن في السماء، ولذلك اختلف السلف فيها:
- فقيل: ذات القصور، ذات البروج بمعنى القصور.
- وقيل: ذات النجوم.
والثاني هذا أظهر، وإن كان لا يتعارض مع الأول، لأنه إذا قيل: النجوم، أو قيل: القصور أو المنازل، فإنها أيضًا تعبّر عن ذات المعنى، فالله يُقسم بهذه السماء وما فيها من الآيات العظيمة وهي هذه النجوم الهائلة التي تدلّ على الله -سبحانه وتعالى- وعلى قدرته وعظمته.
ثم قال بعد ذلك: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿1﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾، أجمع المفسرون على أن اليوم الموعود هو يوم القيامة بلا شك.
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) فماهما ؟!
اليوم الموعود هو يوم القيامة بالإجماع، وأما الشاهد والمشهود فقد وقع الخلاف فيها على قريب من أربعين قولًا.
هذه الرسالة التي تقول ان الشاهد يوم عرفة بدعة هكذا انتشرت ايام عرفه ليست بدعه لماذا ؟!
سأبين لكم الآن :
وهو كلام للشيخ محمد الخضيري ونشرناه في ذاك الوقت عبر الواتس وسأعيده مره أخرى
يقرأ أحد في كتب التفسير فيرى هذه الأقوال الكثيرة في الشاهد والمشهود، فيتعجب ويقول: كيف نفهم القرآن بهذه الطريقة؟!
نقول: لا، ينبغي لك أن تفهم كلام المفسرين وطريقتهم في التعبير عن المعنى، فإنه ليس كلّ خلاف ورد في التفسير هو من قبيل الاختلاف التضاد، لأن الخلاف عندنا نوعان:
- خلاف تنوع.
- وخلاف تضاد.
خلاف التضاد هو: إما أن تقول بهذا أو بهذا.
بمعنى شيء وعكسه ضده
خلاف التنوع هو: أن يمكن تجتمع الأقوال في معنى الآية، ويكون كلّ واحد من المفسرين أشار إلى مثال، أو أشار إلى جهة من جهات المعنى، وهذا كثير في تفسير السلف.
مثل البروج قبل لحظات
من قال منازل عالية والآخرين قالوا النجوم هنا اختلاف تنوع لان النجوم عالية وفي منازل عالية فاستطعنا نجمع المعنى .
فقوله: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾، منهم مَن قال: الشاهد: يوم الجمعة. والمشهود: يوم عرفة.
ومنهم من قال: الشاهد: يوم عرفة. والمشهود : يوم النحر.
ومنهم مَن قال: الشاهد: الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمشهود: أمته.
ومنهم مَن قال: الشاهد: أمة محمد. والمشهود: هي الأمم السابقة.
وأقوال كثيرة، يعني كل ما ورد في القرآن مما وُصِفَ بأنه شاهد أو وُصِف بأنه مشهود قد ذُكر في تفسير هذه الآية إلا نادرًا.
 لاحظوا كم فسر شاهد ومشهود بمعنى فحتى نجمع المعنى نقول :
الشاهد: هو قسَم بكل شيء شاهد.
والمشهود: قسم بكل شيء مشهود.
بهذا يكون هذا التفسير أعمَّ التفاسير، وما ورد عن السلف إنما ورد من باب المثال، وليس يُراد به الحصر.
فمن قال عرفه لا نقول له بدعه ، ومن قال النحر لا نقول بدعه ، وخاصه أن هناك من ذكرها الله في القران لذلك استدل بها العلماء 
مثال الرسول في قوله (شاهداً عليهم ) فبعض العلماء فسر الشاهد بأنه الرسول وإذا كان الرسول شاهد يصبح المشهود أمته وهكذا .
قال سبحانه: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾، قال: ﴿قُتِلَ﴾، ﴿قُتِلَ﴾ دعاء بالقتل، واللعن، والطرد، والإبعاد عن رحمة الله.
﴿أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾؛ أي أصحاب الشق الذي في الأرض، لأن الخد هو الشق، والأخدود هو الأرض المشقوقة أو الشق في الأرض.
الحقيقة أن الآيات أشارت إلى أصحاب الأخدود ولم تبيِّن لنا مَن هم، هل كانوا في زمن مضى؟ هل كانوا في زمن نبيّ من الأنبياء؟ ما أشارت إلى شيء، لكن قالت: ﴿أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.
ومن هنا اختلف المفسرون في المراد بأصحاب الأخدود مَن هم، هل هم قصة وقعت في اليمن؟ أو في نجران؟ أو في بلاد الشام؟ أو العراق؟ أو في صقع من الأرض آخر؟ ذكروا أقوالًا، ولا مانع من أن تكون الآية شاملة لكل أولئك؛ لأنه ليس في الآية ما يدل على أن المراد به قوم معينين، هذه لا بد أن نعرفها.
حتى الحديث الذي ورد فيه قصة أصحاب الأخدود في صحيح مسلم لم يُشِر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الآيات من السورة لنقول إن هذا تفسير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للسورة، بل إنه ذكر قصة أصحاب الأخدود ولم يقرأ آية من آيات سورة البروج.
ومن هنا مَن حمل تلك القصة على أنها تفسير لهذه السورة فهذا اجتهاد منه، ومَن قال: لا، شيء آخر، فهذا أيضًا اجتهاد منه، ولا مانع منه.
ولكن الأليق ما جاء في السنة النبوية، ولا مانع أن يكون غيره داخلًا فيه؛ لأن الآيات تحتمل هذا كله، تحتمل هذا كله.
قال: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾، نسبهم إلى الأخدود؛ لأنهم عملوه ليضطهدوا به المؤمنين، فهم شقُّوا في الأرض شقًّا عظيمًا، ثم أضرموا فيه نارًا هائلة كبيرة، ثم ألقوا فيها مَن آمن، كما جاء في آيات السورة.
﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾، صاحبة الوقود.
فما الوقود؟!
والوقود يعني: الحطب الذي أوقدت به تلك النار .
قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾، جالسون عليها، هذا من شدة ماذا؟ 
طغيانهم وظلمهم، يعني جالسون حول النار يتلذذون بتعذيب المؤمنين، من شدة ما هم فيه من البغي والعدوان والظلم لهؤلاء المؤمنين الذين ما كان لهم من ذنب يستحقون عليه العذاب إلا أنهم قالوا ربنا الله.
( وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ )
أي شاهدون وحاضرون على ما يفعلونه بالمؤمنين، وهذا للدلالة على قسوة قلوبهم، وعلى قصدهم لما فعلوا، وأن ما فُعل لم يجرِ في الخفاء، أو يجري من وراء ظهورهم، أو بغير رضاهم، أو بغير أمرهم؛ بل كان ذلك بأمرهم، وكانوا مسرورين بفعلهم، وكانوا يظنون أنهم قادرون على كل شيء.
نعوذ بالله من قسوة القلب وصده وطغيانه .
قال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾، ما الذي جعلهم ينقمون من المؤمنين؟
قال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، ما نقموا منهم؛ لأنهم كانوا مشاغبين، أو غير ذلك مما يحاولون أن يحتجوا به، لا، إنما نقموا من أجل أنهم كانوا مؤمنين.
ومن العجيب :
أن الإنسان يعاقب على الحق، وعلى التزامه به، وهذه إحدى السنن العظيمة في الصراع بين الحق والباطل، وهي أن الإنسان الملتزم يجد عداوة ممن لا يلتزم بالحق، ولذلك مثلًا المرأة العاهرة تعادي المرأة العفيفة، تعاديها لأي شيء؟ لعفتها، سبحان الله، كان المفترض أن تكون العفة سببًا لمحبتها وإكرامها وإجلالها، فإذا بها تعاديها.
وكذلك قوم لوط السبب ؟!
لانهم اناس يتطهرون (أخرجوا آل لوط من قريتكم ) .
 ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ 
وهما اسمان من أسماء الله
العزيز: مأخوذ من العزة، والعزة عندنا عزة الله -عز وجل- التي نثبتها لله هي ثلاثة أنواع:
- عزة قدر.
- وعزة قهر.
- وعزة امتناع.
عزة القدْر: أن يكون الله -عز وجل- عزيزًا، يعني فلا يُنال بسوء، فهو ذو العزة في قدره -سبحانه وتعالى-.
وعزة القهْر: أن يكون قاهرًا على غيره، والله -عز وجل- قد قهر كل شيء ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18].
وعزة الامتناع: أن يكون الله ممتنعًا عمن يريده بشيء من السوء، يعني مهما حاولوا أن يسيؤوا إلى ربهم -سبحانه وتعالى- فإنهم لن ينالوا من الله شيئًا، فالله عزيز.
ثم قال: ﴿الْحَمِيدِ﴾؛ أي المحمود، فعيل بمعنى: مفعول، يُحمد على أفعاله كلها.
وذكرت في ختام الآية لمناسبة العزة: كأنها تهديد لهم، وأيضًا بشارة للمؤمنين، يعني: أيها المؤمنون سينتقم الله من هؤلاء الذي آذوكم وفعلوا بكم ما فعلوا.
الحميد: المحمود على كل أفعاله، فلا تظنوا أنه -سبحانه وتعالى- عندما يُمكِّن هؤلاء الظالمين من رقاب هؤلاء المؤمنين أن ذلك شر للمؤمنين، لا، هو خير لهؤلاء المؤمنين، إنه يُعجِّل بهم إليه ليُكرمهم، ويُعظم منازلهم.
قال الله -عز وجل-: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وهذا من عزته، فهو القادر على كل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، ولذلك ملك السماوات والأرض له سبحانه، فإذا كان له وهؤلاء في ملكه -هؤلاء الذين فعلوا ما فعلوا في ملكه- إذن لا خوف؛ لأنهم لن يفلتوا من قبضته، ولن يخرجوا عن ملكه .
قال: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، الله -سبحانه وتعالى- على كل شيء، لا يخرج من هذا شيء، وهذا من الألفاظ العامة التي تستوعب كل شيء.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، ﴿شَهِيدٌ﴾ بمعنى حاضر ومطلع وعالم مبصر، لا يخفى عليه من أمر العباد شيء -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.
إذن: فاطمئنوا أيها المؤمنون، إياكم أن تظنوا أن ما يفعله أعداؤكم بكم قد فات على الله، أو أن الله لم يطلع عليه؛ لا، لا، لا، الله مطلع على كل شيء، وسيعطي كل أحد جزاءه، إن صالحًا وإن سيئًا.
وحديث القرآن لا يمل والتأمل في آياته وتدبرها يجعل من الإنسان إنساناً آخر يتغير إداركه ويعرف نفسه وقدره ويعرف أهم مافي القرآن معرفة الله .
لذلك التمسك بالدين والاقبال عليه والرجوع للقرآن والاعتكاف عليه
يقي الانسان الفتن ويلهمه الصبر لانه يعرف أن هذه سنه ماضيه ويعقبها خير عظيم بإذن الله ولو تلاحظون أكثر الناس ثباتاً أكثرهم تقوى وأكثرهم خوفا من الله ومعرفه به ومن عرف الله عرف حجم البشر وقدراتهم .

قال الله -عز وجل- بعد ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الآن جاء دور ماذا؟

 جاء دور الجزاء والعقوبة.

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا ما معنى فتنوا؟ نعم.

{أحرقوا وعذبوا المؤمنين}.

فتنوا هنا بمعنى أحرقوا، ونحن نفسرها بما يدل عليه السياق؛ لأن السياق في هذا المعنى، قال: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿4 النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿5إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿6 وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.

إذن: فتنوا هنا ليست بمعنى ابتلوا ابتلاءً عامًّا، بل فتنوا بمعنى أحرقوا، وأصل الفتنة في اللغة بمعنى الإحراق .

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا أي: أحرقوا.

﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وهذه عادة القرآن، إذا ذُكِر الرجال والنساء قُدِّم الرجال على النساء.

قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، 

سبحان الله، فعلوا هذا الفعل العظيم البشع المنكر وهو الإحراق الذي هو أبلغ أنواع العذاب التي تنزل بالإنسان من أخيه الإنسان، ومع ذلك يقول: هؤلاء الذينفعلوا ما فعلوا إذا لم يتوبوا سأفعل بهم كذا وكذا. 

سبحان الله، أي فضل من الله على عباده أعظم من هذا؟

 وأي إطماع بالتوبة أبلغ من هذا الإطماع؟ 

هذا يدل على ماذا؟ 

 على سعة رحمة الله، وأن الإنسان مهما فعل من كفر، وجحود، وبغي، وعدوان، وظلم، فإن الله -سبحانه وتعالى- يفتح له باب التوبة، «إن الله ليبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل»، وقد ورد في الحديث: «إن الإسلام يَـجُبُّ ما قبله».

قال: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فهذه من أرجى آيات القرآن، كيف يفعلون هذا الفعل؟ وبمَن؟ 

بكل المؤمنين والمؤمنات، الصغار والكبار، ثم يقال لهم: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، يعني لو تابوا لمحا الله كل ذلك عنهم.

ولذلك يتعجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتعجب الرب -سبحانه وتعالى- من اثنين يقتل أحدهما صاحبه، ثم يكونان في الجنة، قالوا: كيف؟ قال: يقتل هذا ذاك وهو كافر، ثم يسلم، فذاك يُكتب شهيدًا، ثم هذا يسلم فيموت على الإسلام فيدخلان الجنة.

قال: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ؛ أي العذاب الذي يكون في النار

﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ، طيب، أليس عذاب جهنم هو عذاب الحريق؟

نقول: نعم ولا. عذاب جنهم أوسع من عذاب الحريق؛ لأن من عذاب جهنم الزمهرير الذي هو شدة البرودة.

يعني جزاؤهم يكون من جنس عملهم، وهذه من كمال عدل الله -عز وجل- أن يُجازيَ العبد جزاءً من جنس عمله.

وإذا تتبعتم هذا وجدته مطردًا في كل جزاء، يعني مثلًا تلاحظون : 

اليد عندما تسرق تُقطع، انظروا. الجزاء من جنس العمل، كما كانت السرقة باليد أيضًا يكون القطع لتلك اليد.

ودائمًا نلاحظ مثلًا: بروا آباؤكم تبركم أبناؤكم. الجزاء من جنس العمل، وهذا كثير في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهنا إنما ذُكر الحريق تذكيرًا بالحريق، فكما أحرقوا المؤمنين وهم شاهدون على ما يفعلون؛ فكذلك هم في جهنم يحرقون جزاءً وفاقًا.

قال الله -عز وجل- مبينًا بعد أن بيَّن عقوبة هؤلاء الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا وآذوا المؤمنين، وهذه سورة نزلت من باب التهديد للكفار الذين كانوا يؤذون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويؤذون أصحابه ويبالغون في عداوتهم وإيصال الأذى إليهم- قال مبشرًا أولئك المؤمنين الصابرين الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم من أجل دينهم

 قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

نلاحظ كثيرًا في القرآن القرن بين الإيمان والعمل الصالح لئلا يدعيَ إنسان أن مجرد إيمانه بالله وتصديقه القلبي المجرد كافٍ في وصوله إلى الفوز والنجاة، لا، لا بد أن تصدق هذا الإيمان بعمل، ولذلك جعل أهل السنة من حقيقة الإيمان العمل، فقالوا: الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، لا بد أن يكون عملٌ يُصدّق ذلك الإيمان الباطل.

أما إيمان باطل لا يصدّقه لا قول ولا عمل بالأركان؛ هذا إيمان غير صحيح، ولذلك يأتي هنا عندنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

وبأي شيء يكون العمل صالحًا؟ يكون العمل صالحًا بأي شيء؟

{بموافقته للسنة، وأن يكون خالصًا}.

بشرطين، أي عمل لا يمكن أن يسمى صالحًا حتى يكتمل فيه شرطان :

وهو أن يكون العمل خالصًا لله لا يُراد به إلا وجهه، 

وأن يكون موافقًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فإذا جاء الإنسان وعمل عملًا صالحًا وخالصًا، ولكنه غير موافق لسنة رسول الله فإن الله لا يقبله؛ لأنه لماذا بُعث رسول الله؟ 

ما بُعث رسول الله إلا لنعبد الله بما شرعه لنا رسول الله.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: 

«مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»،

 «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»،

 فلا يجوز لك أن تتعبد الله بشيء لم يشرعه لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال الله -عز وجل-: ﴿لَهُمْ تمليك، ليشعر بأنه يملكون هذا الذي سيؤتونه في الجنة، ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ وليست جنة، والجنة بمعنى البستان المليء بالأشجار، واللذائذ، والطيبات، والثمار والمأكولات والمشروبات، جنات، وكل جنة تختلف عن الجنة الأخرى.

قال: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، الأنهار تجري من تحت تلك الجنات، وهذا من ألذّ ما يكون في الراحة والنعمة واليسر، لأن النهر يجري من تحتك، فأنت تراه، تتلذذ بمرآه، وتسر بأنك فوقه، وأيضًا إذا أردت شيئًا وإذا هو قريب، فضلًا عن أن الغلمان يطوفون عليك بأكواب وأباريق وكأس من معين -نسأل الله الكريم من فضله.

قال: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ، هذا الفوز الذي سيحققه هو الذي حقق الفوز الحقيقي، ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ.

ثم قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ،هذا تهديد لهؤلاء الذي يفعلون بالمؤمنين ما يفعلون سواء كانوا من المعاصرين، أو من المتقدمين، لا يغرّنكم إمهال الله -عز وجل- وأنه -سبحانه وتعالى- ترككم تفعلون بالمؤمنين ما تفعلون، فإن هذه الدنيا ليست محلًّا في الأصل للجزاء، لأنها أحقر من أن تكون محلًّا للجزاء، «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافرًا منها شربة ماء».

فإذا فات على المؤمن أن يتنعم فيها أو يبقى فيها، أو يأخذ حقه ونصيبه فيها، فإنه ما فاته شيء أصلًا، ما فاته شيء، يعني لو أنك ما ملكت فيها قصرًا ولا بيتًا ولا زوجة ولا دارًا ولا مالًا، ما فات شيء ما فاتك شيء لأن الدنيا ليست بشيء، لا تزن عند الله جناح بعوضة.

ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يبين لنا مقياس ما بين الدنيا والآخرة، قال: «مثل ما في الجنة بالنسبة للدنيا مثل ما يضع أحدكم أصبعه في اليمِّ فلينظر بمَ يرجع»، يعني هذه نسبة ما بين الدنيا والآخرة، واحد وضع أصبعه في البحر، هذا البلل ماذا نقص من البحر؟ كذلك نسبة الدنيا بالنسبة للآخرة -لا إله إلا الله- شيء مهول.

قال الله -عز وجل-﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿12 إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيعِيدُ.

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ، البطش هو: الأخذ بشدة وقوَّة.

﴿لَشَدِيدٌ﴾: لقوي عنيف، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102] ».

﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيعِيدُ﴾

ما معنى يبدىء

اختُلف في هذه الآية على قولين:

﴿يُبْدِئُ﴾ من إبداء الإنسان، أي خلقه أول مرة، وإعادته بعد موته، وهذا معنًى يرد في القرآن الكريم كثيرًا.

والثاني: إنه يُبدئ العذاب ثم يعيده، وهذا أنسب للسياق وإن كان المعنى الأول صحيح؛ لأن الله يُبدِئ الخلق ثم يعيدهم، أي يبعثهم بعد موتهم.

لكن اللائق بالسياق هو الثاني، فكأنه يقول: سيعجل العقوبة لهؤلاء الظالمين الذين أحرقوا المؤمنين بالنار، يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ثم يعيدها عليهم في الآخرة .

﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾، سبحان الله! هذا من كون القرآن ماذا؟ 

كونه مثاني. 

يأتي بالمعنى ثم مرة أخرى يعيده لكن من وجه آخر، أو يأتي بالرجاء ثم الخوف، أو بالترغيب ثم بالترهيب، أو بالمؤمنين ثم الكافرين، أو بالجنة ثم النار، هذا من كون القرآن مثاني، تستوعب المعنى من جميع جهاته، تبقى متزنًا في فهم الحقائق.

قال: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ يُطمع هؤلاء بالتوبة، فهو غفور إذا استغفرتموه غفر لكم ومحا عنكم ذنوبكم.

الغفر في أمرين ما هما ؟!

والغَفَر فيه أمرين:

الغفَر بمعنى الستر.

والغفْر بمعنى التجاوز.

فإذا قيل: غفور، يعني الذي يستر الذنوب ويتجاوز عن عقوبتها ومجازاة أصحابها .

 بقوله ماذا؟ ﴿الْوَدُودُ﴾، لماذا جاء ﴿الْوَدُودُ﴾ بعد ﴿الْغَفُورُ﴾؟ 

المودة تكون من الله بعد الغفران، وهنا يأتي السؤال: ما معنى ﴿الْوَدُودُ﴾؟ ﴿الْوَدُودُ﴾ هنا ما معناها؟

الحبيب الذي يتحبب لأوليائه، فإذا تحبب إليهم ودُّوه وأحبوه -سبحانه وتعالى- ولكن هذا لا يأتي إلا بعد المغفرة.

ثم قال واصفًا نفسه ومعظمًا ذاته: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾؛ أي صاحب العرش، وإنما ذكر العرش دونما سواه لأنه أعظم المخلوقات، وهو المخلوق الذي جعله الله -عز وجل- محلًّا للاستواء .

 ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾، المجيد هو الله والمجيد مأخوذ من المجد هو الكرم والعظمة، العظيم الكريم الذي هو واسع في قوته وعظمته وكرمه -سبحانه وتعالى-.

ثم وصف نفسه قال: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾، وهذا من باب التهديد، فهو -سبحانه وتعالى- يفعل كل شيء يريد، بخلافنا نحن نفعل أشياء لا نريدها، ونريد أشياء ولا نفعلها .

ثم قال -عز وجل- استدراكًا للوقت: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾، هذا بعد أن هدد في قصة أصحاب الخدود، هدد في قصص الأقوام الآخرين.

مَن هم؟

قال: ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ ماذا فعل الله بهم؟ وهذا تهديد لكم يا أهل مكة، يا مَن تفعلون برسول الله ما فعلتم.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾، الذين كفروا في تكذيب، يعني كأنهم من كثرة تكذيبهم لما يأتيهم من الآيات والبينات كأنهم في وسط التكذيب.

قال: ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾؛ أي قد أحاط بهم من جميع الجهات، فكيف يظنون أنهم يفلتون من قبضة الله؟ وكيف يفعلون ما يفعلون برسول الله وبالمؤمنين معه؟ ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِم مُّحِيطٌ﴾.

قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ﴾؛ أي هذا القرآن الذي نزل على رسول الله قرآن مجيد كريم وعظيم، ولا يستطيع أحد أن يصل إليه بسوء.

قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿21﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾؛ أي هو مكتوب في اللوح المحفوظ.

وقد قُرأت محفوظ بقراءتين:

- ﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾، إذن مَن هو؟ "محفوظ" هذه صفة لماذا؟ للوح.

- وقُرأت ﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٌ﴾، تكون صفة لماذا؟ للقرآن، بل هو قرآن مجيد محفوظٌ في لوحٍ.

بأي القراءتين نأخذ؟ بكليهما، وهذا من فوائد القراءات أنها تبرز لنا معاني إضافية من دون أن يكون في ذلك أدنى تعارض.

بهذا ننتهي ونصل إلى نهاية تفسير هذه السورة الكريمة التي فيها معانٍ عظيمة -نسأل الله أن ينفعنا بها.