'
لقاءات مجموعة | تدارس 📚 |
في تطبيق لاين [line]
الدرس الخامس عشر ، السادس عشر :
سورة الإنشقاق
هل سورة الانشقاق مكية أم مدنية
نعم .
هي سورة مكيّة بلا إشكال؛ لأن موضوعاتها وأسلوبها هو أسلوب السور المكيّة.
ورد في فضلها الحديث الذي ذكرناه في سورة التكوير، وفي سورة الانفطار، حينما قال النبي -صلى الله عليه وآله سلم-: «مَن سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ﴾».
هذه السورة مكية ، وهي خاصة أو تتحدث عن يوم القيامة، وما فيه من الأحداث والأهوال، وما فيه من العظات التي تحمل الناس على أخذ الأُهْبَة والاستعداد لذلك اليوم.
افتُتحت هذه السورة بقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾، بدأ بالسماء لماذا؟
لأنَّ السماء آية كبرى يراها كل احد، مَن كان في شمال الكرة الأرضية، ومَن كان في جنوبها، ومَن كان على خط الاستواء، وهي آية يُبصرها الصغير والكبير، والناس يرونها أضخم الآيات التي يرونها بأعينهم، ولذلك يبيِّن الله أن هذه السماء على عِظَمها وكِبَر جرمها إلا أنها ستتشقق، وسيحدث لها تغيُّر.
فإذا كانت السماء التي هي أصل في الثبات وعدم التغيُّر -فيما نرى نحن- والتماسك والاستواء وحُسنِ الخلْق، فغيرها من بابٍ أولى.
ففي يوم القيامة يتغيَّر كل شيء، ولذلك يعبِّر بعض المعاصرين عن ذلك التغير الذي سيحدث يوم القيامة بأن يقول: هو الانقلاب الكوني، يكون كل شيء يَنقلب على ضد ما كان عليه، إذا كانتِ النجومُ في السماء فإنها ستَهبط، وإذا كانت مُنيرة فإنها ستنطفئ، وهذه الشمس إذا كانت مستديرة فإنها ستُلف، وإذا كانت مضيئة فإنه ستنطفئ وتُلقى في النار، وهذه الجبال التي هي أصل في الرسوِّ والثبات والرسوخَ ستتفتت وتكون كثيبًا مهيلًا، ثم يجعلها الله كالعهن المنفوش، ثم تُسيَّر .
ذكرنا مراحل تحدث للسماء يوم القيامة فمن تتذكر ؟!!
نعم
تمر بمراحلَ، فهي أولًا: تنفطر، وهو الانفطار أولُ الانشقاق، ثم تنشق، ثم تُفتَّح، كما قال الله في سورة عم: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾
كلمة ﴿وَأَذِنَتْ﴾ ما معناها؟
نعم .
استمعت، وهذا الاستماع يدعوها إلى الانقياد، يعني استمعت استماع المنقاد.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾، استمعت له مع ضخامتها وعظمها وكِبَر جرمها، فإنها تستمع لله، وتطيع وتذعن لله.
﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي حُقَّ لها أن تسمع وتطيع، فلا يسعها شيء غير ذلك. وهذا فيه ماذا؟ فيه الذم لأولئك الذين يسمعون كلام الله ولا يستجيبون ولا يطيعون.
إذا كانت هذه السماء على ضخامتها وعظمها تستمع لربها وتطيعه، ولا يليق بها شيء غير ذلك، فما بالكم أنتم تستكبرون؟! ولكن هذا طبع الإنسان ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، أي جحود كفور، ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]، وقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، هذه من طبيعة الإنسان التي يجب أن يتغلب عليها بانقياده لأمر الله، واستماعه لوحي الله، واستجابته لأمر الله.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ﴾، هذه الآية المقابلة، بعد أن ذكر السماء جاء إلى الأرض التي نراها نحن، آية عظيمة ضخمة، نمشي على متنها، ونبني على ظهرها، ونسير على طرقها، هذه الأرض التي تبدو في الصورة وتبدو أيضًا للناظر من بعيد أنها ليست ممدودة، وإنما هي كُرَيَّة.
قد أجمع العلماء سلفًا وخلفًا على أن الأرض كروية، هذه الأرض يوم القيامة لا تبقى كروية، وإنما تمدُّ مدَّ الأديم -أي مدَّ الجلد- فتبقى مستوية حتى تستوعب جميع الخلائق ممن خُلِقوا على ظهرها من الإنس والجن والحيوانات .
(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) ، الأرض في جوفها ثروات هائلة جدًا، وفي جوفها أشياء وضعها الناس، منها أبناء آدم الذي إذا ماتوا دُفنوا في الأرض، ومنها ما يوضع فيها من الكنوز، وما فيها من الخيرات، وما خلق الله في جوفها من الثروات؛ كل ذلك يوم القيام تلقيه الأرض وتؤديه، فهي أمينة وهي مطيعة، ويمر الناس بها ويتأسفون، يقولون: على هذا -الذي لا نلتفت إليه اليوم- كنا نختلف ونتقاتل ويبغي بعضنا على بعض، ويأكل القويُّ منا الضعيفَ، تبًّا لهذا الذي ألقته الأرض، ونحن اليوم نتعفف عنه ولا نلقي له بالًا.
قال: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾، تخلت عنه وتركته.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾؛ أي استمعت لربها، ﴿وَحُقَّتْ﴾، يعني وحُقَّ لها أن تستمع.
هذا الآن كله كلام عن أهوال يوم القيامة ليدخل منه إلى شيء آخر من أحوالها التي يجب علينا أن نستعدَّ لها.
وهنا يتحدث عن الأحوال التي يؤول لها الإنسان .
قال الله -عز وجل- مبينًا ماذا يكون للإنسان، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾ هنا ليست بمعنى الإنسان الكافر، بل هي بمعنى الإنسان أي: جنس الإنسان، المؤمن والكافر، يقول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ﴾ خطاب لبني الإنسان جميعًا.
﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾، ما معنى "كادح"؟
جميل، الكدح بمعنى: بَذل الجهد والسعي والعمل المجهِد، هذا هو الكدح.
وهذا يدلنا على أن جميع بني الإنسان سيكدحون في الدنيا، الأغنياء والفقراء، الأمراء والضعفاء، الكبار والصغار، الذكور والإناث؛ لا بد أن تأخذ حظك من الكدح.
بعض الناس يقول: الأغنياء مرتاحون، ليسوا مرتاحين، قد يرتاح بدنه، لكن ينشغل قلبه، أنت الآن تنام في أي مكان مرتاحًا لا تفكر إلا في هذه الدريهمات التي في جيبك، وهو لا يكاد يأتيه النوم في الليل؛ لأنه يفكر في الباخرة التي تمشي في عرض البحر، والطائرة التي تسير في جو السماء، فالكل يأخذ نصيبه من الكدح.
هنا يقول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾، وأبهمه هنا ولم يبيِّنه لاختلاف الكدح، فمن الكدح كدحٌ صالح، ومن الكدح كدحٌ فاسد، من الكدح كدحٌ طيب، ومن الكدح كدحٌ خبيث.
فَمُلَاقِيهِ﴾، هل قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ هذه تعود إلى قوله: ﴿كَدْحًا﴾ أو تعود إلى قوله: ﴿رَبِّكَ﴾؟ لأن الضمير هنا يصلح أن يعود إلى هذا، ويصلح أن يعود إلى هذا، ماذا ترون؟
يرجع إلى الكدح لأنه أقرب ما يكون، هذا قول لبعض أهل العلم، وهو أن قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾؛ أي فملاقٍ كدحك.
والقول آخر: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ فملاقٍ ربَّك.
وعندنا قاعدة: "أنه إذا صلح أن يعود الضمير إلى هذين؛ فلا مانع"، ونحن نقول: كادحٌ إلى ربِك كدحًا فملاقٍ ربَّك بكدحك.
فأنت لا بد ملاقيه، ستلاقي عملك. طيب، عند مَن؟ عند ربك، ولذلك ما تعمل من خير إلا وستلقاه، وما تعمل من شر إلا وستلقاه، وستلقاه عند ربك الذي سألك عن القليل والكثير، وعن الصالح والسيئ، وعن الطيب والخبيث، والذي لا يغادر من عملك شيئًا. قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾
قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾، الآن جاء يفصل الكدح، فمنه كدح طيب وبدأ بهم، ومنهم كدح خبيث وثنَّى بهم.
قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾، هذا إشعار بأنهم عملوا عملًا صالحًا؛ لأنهم يؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم -نسأل الله أن يجعلنا كذلك .
وهذا موقف من أصعب المواقف وأعظمها وأشدها هولًا على من يحضرون موقفَ يوم القيامة؛ لأن الإنسان لا يَدري، هو ينتظر هل يُعطى كتابه باليمين؟ أو يُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره؟
قال الله -عز وجل-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ﴾، سوف هذه للتنفيس.
يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾، ﴿يُحَاسَبُ﴾ هنا ليس بمعنى يُناقش على الحساب، وإنما بمعنى يُعرض عليه عمله؛ لأن من نوقش الحساب عُذِّب.
لماذا قلنا أن من نوقش الحساب عذب ؟!
حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن نُوقش الحسابَ؛ عُذِّب»، يعني من فُتّش معه ودُقّق عليه سيُعذّب، لأنه يُراد إقامة الحجة عليه.
قالت أمنا عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "أليس الله -عز وجل- يقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾؟"، يعني أثبت أنه يُحاسب. قال: «ليس ذلك الحساب، وإنما هو العرض»، يعني المؤمن يُعرَض، يُقرَّر بذنوبه. ألم تفعل كذا؟ ألم تفعل كذا؟ ألم تفعل كذا؟ فيقول: بلى يا رب، بلى يا رب، بلى يا رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه وظن أنه قد هلك قال له الله -سبحانه وتعالى: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، اسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعاملنا بلطفه وفضله وعفوه وكرمه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
قال: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾، إذن الحساب اليسير بنصِّ السنة النبوية هو ماذا؟ هو العرض، وليس مناقشة الحساب.
قال: ﴿وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، يرجع إلى أهله في الجنة مسرورًا بما لقي من فضل الله وعفوه ورحمته، وإيتائه كتابَه بيمينه.
في الدنيا كان خائفًا، كان دائمًا يبكي من خشية الله، كان يخاف أن يُرد عليه عمله، أن يُؤاخذ بذنوبه، ألا يُتقبل منه الصالح من أعماله، إلى آخره مما يحصل للمؤمن، ويموت والخوف يخلع قلبه، لكنه يبدَّل هذا الخوف يوم القيامة أمنًا وفرحًا وسرورًا، فهو في يوم القيامة يبقى مسرورًا ويُبعث على ذلك السرور.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾
في سورة الحاقة قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [الحاقة: 25]، فهل هما صنفان أو صنف واحد؟
من العلماء من يقول: إنهما صنفان، صنف يأخذ كتابه بشماله، وصنف يأخذ كتابه من وراء ظهره.
والذي يظهر -والله أعلم- من التصنيف في السورتين أنهما شيء واحد، فهذا الصنف المذكور في سورة الانشقاق هو الصنف المذكور في سورة الحاقة.
طيب، هل بين الوصفين في أخذ الكتاب تعارض؟ الذي يظهر أنه لا تعارض؛ لأنه يمكن اجتماع الوصفين، فهو يأخذ كتبه بشماله من وراء ظهره -نسأل الله العافية والسلامة-، وهذا فيه من الإزراء عليه، والتقبيح له، والتشهير به في موقف القيامة عندما يأخذ كتابه، وكتابه وراء ظهره.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾؛ أي في ذلك اليوم سيدعو على نفسه بالهلاك والويل والثبور، واثبوراه، واخساراه، واهلاكاه، واويلاه.
لكن هل ينفع؟ ينفعك أن تقول هذا الكلام في هذا اليوم؟ ألم يأتكَ نذير من الله؟ ألم يُنزل الله عليكَ كتابًا؟ ألم يرسل الله لك رسول رسولًا؟ ألم يجعل الله لك عقلًا وعينين ولسانًا وشفتين، ويهديك النجدين، ويُريك الحق، ويُريك الباطل، ويفرق بينهما بالفطرة، وبالعقل، وبالرسالة، وبالدعوة، وغير ذلك مما يقيمه الله عليك من الحجج؟ فما الذي صرفك؟ ما لك حجة! ما لك حجة تحتج بها على الله، فإن الله -سبحانه وتعالى- قد أغلق عليك أبواب الحجج؛ لأنه قد أعذر إليك.
﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾؛ أي هلاكًا.
﴿وَيصْلَى سَعِيرًا﴾
يصلى سعيرًا هو بنفسه، ويُصلَّى على وَجه المبالغة ﴿سَعِيرًا﴾؛ أي يُدخل النار فيُصلَى ويُشوَى بحرها.
﴿سَعِيرًا﴾ تتسعر به وتحرقه وتتلهَّب على جسده.
ثم قال بعدها
( إنه ) من هو ؟!
من أوتي كتابه وراء ظهره
قال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي هذا الذي يأخذ كتابه بشماله، وراء ظهره.
﴿إِنَّهُ كَانَ﴾؛ أي في الدنيا ﴿فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، منتشٍ، فرحان، لا يبالي، يشرب الخمر، ويعاقر الزنى، ويفعل الموبقات، وكل ما بيده حلال له، ليس هناك حدود، حرية مطلقة، افعل ما شئتَ فأنت الإله، وأنت كل شيء في هذا الكون.
﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، بعض الناس يعرض لنا صور هؤلاء الكفار وهم مبتهجون في حياتهم، وهم يتلذذون بها، وهم مسرورون بما هم فيه من النعمة ومن الخير، ويقول: انظروا إلى هؤلاء الكفار. نقول: نعم، لهم سرور، وتدركهم سعادة، لكنها سعادة مؤقتة قليلة، من بعدها حسرة وندامة طويلة.
قال: ﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾، ولكن هذا السرور سينقلب ويتغيّر.
﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ﴾ ما معنى "ظن" ؟!
الظن هنا بمعنى اليقين، ويأتي الظن في القرآن في مواطن بمعنى اليقين. مَن تأتي بمثال على ذلك؟
ق﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19﴾ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ هل المؤمن يظن أنه يلاقي الحساب، أم يعتقد ذلك ويجزم به؟
يعتقد ويجزم
ويأتي أيضًا بمعنى غلبة الأمر على الإنسان، أنه شيء غالب، كما في قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ﴾
ما معنى يحور ؟
نعم يرجع
قال: إنه ظن أن لن يرجع إلى الدنيا، إذا مات انتهى، ولذلك هؤلاء الكفار هذا موجود في عقيدتهم، ما الذي يجعل الكفار الآن يبذلون كل ما في وسعهم لتمتيع أنفسهم في الدنيا؟ تجد الواحد منهم، حتى يُذكر هذا عن بعض الغربيين في بعض الدول كما في دولة فرنسا، يقال أنه يعمل ستة أشهر ويأخذ إجازة ستة أشهر ليتمتع بهذا الذي قد حصله في الأشهر الأولى، لماذا؟ لأنه لا يرى شيئًا آخر غير هذه الدنيا ومتاعها.
ولذلك لا يدخر شيئًا، كله يأكله ويتنعم به في الدنيا؛ لأنه لا يتوقع مصيرًا آخر، ولا يرجو دارًا أخرى يستعد لها ويضع لها شيئًا من عمله الصالح، أو فضل كماله أو غير ذلك.
وفي سنن ابن ماجه أنه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن كان يقول: ' اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور '
الحور الرجوع والكور التمام والاكتمال
قال الله -عز وجل-: ﴿بَلَى﴾، يعني سيحور ويرجع، ولا بد له من ذلك، ولا يليق بحكمة الله إلا ذلك، كيف يخلقنا ويخالف بيننا، فمنَّا المؤمن والكافر، ومنَّا البرُّ والفاجر، ومنَّا الظالم والمظلوم، ومنَّا الصالح والطالح، وفي النهاية نموت ميتة واحدة ولا فرق بيننا؟ لا يمكن ذلك، بل لا بد من البعث ولا بد من الجزاء، ولا يسوِّي الله -عز وجل- بين هؤلاء وهؤلاء.
قال: ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ﴾ الذي خلقه ورباه، ﴿كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾؛ أي يراه ويسمع ويعلم عنه، ولا يخفى عليه من أمر عبد خافية، مطلع عليه، قد دوَّن كل شيء عليه.
بعد هذا المقطع جاء إلى مقطع آخر .
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾، هذا قسَم.
قال :
﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾.
قال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾، ما هو الشفق؟
نعم، الحمرة التي تكون في السماء بعد غروب الشمس، وقد اختلف هل هي الحمرة، أو البياض؟ لكن جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر وقت المغرب قال: «ما لم يغِب الشفق»، فدلَّ ذلك على أن وقت العشاء هو وقت مغيب الشفق.
إذن: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ الذي هو أول الليل.
جمع الناس والحشرات والدواب ففي الغالب الناس تتفرق في النهار لتبحث عن زرقها
(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) ما معنى وسق ؟!
وفي الليل يجتمعون
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾
ما معنى اتسق ؟!
اجتمع وتكامل نوره، أو استدار وأبدر واكتمل نوره وذلك في الليالي الوسطى من الشهر، ليلة ثلاثة عشر، وليلة أربعة عشر، وليلة خمسة عشر.
وهنا جواب القسم
قال: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾
هذا قسم عجيب جدًّا في القرآن، يُقسم الله به على حالٍ أو على شيء يمرُّ بالإنسان، وهو أن الإنسان كائن غير مستقر، ولا يمكن أن يلبث على حالة واحدة.
نحن بنو الإنسان نتغيَّر، ليس في السنوات، ولكن حتى في اللحظات، ما نبقى على حالة واحدة، ليل ونهار، طفولة ثم شباب ثم كهولة ثم هرم، حياة ثم موت، حتى في حال ما كنا أجنة في بطون أمهاتنا أيضًا، نبدأ نطفة ثم مضغة ثم علقة ثم نكبر حتى نخرج، وهكذا عندما نخرج لا نعرف شيئًا، ثم نبدأ نتحرك، ثم نبدأ نفهم، ثم نبدأ نعلم، ثم نحبو، إلى آخره.
وفي قوله لا تركبن
اختلف فيها بعض المفسرون ومنهم من قال أن المقصود محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا أن فيها دلالة على المعراج
وقال بعضهم أنها عامة للناس
ثم قال بعدها
﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، لاحظوا هذا المعنى المهم، يعني بعدما أقسم بأنه سيتغير أحوالهم، إذن ما الذي يجعلهم وهم يرون أنفسهم تتحول من حالٍ إلى حال، ويرون أن الله يفعل بهم ما يشاء؛ إذن ما الذي يدعوهم إلى أن يتصلبوا ويأبوا أن ينقادوا لأمر الله وهم يرون الله -سبحانه وتعالى- يفعل بهم ما يشاء .
ثم قال ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾.
إذا تُليَ عليهم القرآن، وهذا يدلنا على أنه من أعظم وسائل الإنذار وتبليغ الدعوة هو قراءة القرآن.
قال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾
يعني ما يحملهم على عدم الإيمان إلا مجرد التكذيب فقط
قال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾، الله أعلم بما يضمرون وما في نفوسهم، وأن الذي يحملهم على عدم الإيمان ليس هو عدم ظهور الحق أو آيات الحق ليس قوية ولا مبينة للحق، بل لشهوات في أنفسهم، كبر، حسد، غفلة، متابعة للآباء، استجابة لطلبات الناس والأصدقاء، ونحو ذلك.
قال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾؛ أي بما يجمعون في صدورهم ويخفونه عن سائر الناس.
﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ هذا القسم الثاني.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ هذا قسم ثالث.
ثلاثة أقسام، أين جواب القسم؟
قال الله -عز وجل-: ﴿فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي بلغهم بأنهم سيعذبون عذابًا أليمًا.
والبشارة تُقال في الأمر السَّار، وإن كانت في أصل اللغة: الخبـر؛ لأن أثر الخبر يظهر على البشرة، فغلب استعماله على ما يسر، لأن البشرة ماذا؟ يظهر فيها السرور، وهنا تكون من باب التهكم.
﴿فَبَشِّرْهُم﴾؛ أي بلغهم بلاغًا يدلُّ على أنهم سيكونون في النار، من باب التهكم بهم؛ لأن البشارة غلب استعمالها على الخبر السَّار.
قال الله -عز وجل-: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، هؤلاء الذين آمنوا صدَّقوا، وخالفوا هؤلاء الذين كفروا وكذبوا، وأيضًا عملوا عملًا صالحًا يوافق إيمانهم، ويصدِّق إيمانهم
وغير ممنون: غير مقطوع ولا منقوص .
أسأل الله أن نكون منهم
ووالدينا وجميع المسلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق