أي النجم الذي يثقب الظلام بضيائه.
ثم بيَّن المقسَم عليه فقال: ﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾
قال: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، هذه دعوة للإنسان، بعد أن انتهى من العوالم العلوية السماء، والطارق النجم الثاقب؛ انتقل إلى ذات الإنسان تذكيرًا له.
﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، حتى لا يتكبر، وحتى يعلم دقة تدبير الله وتقديره.
﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾، من أي شيء خلق؟
قال الله -عز وجل-: ﴿ خُلِقَ ﴾ أي الإنسان ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾
﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾، ﴿ خُلِقَ ﴾ فالله -عز وجل- هو الذي خلق، أي أو جده وأنشأه وأخرجه ﴿ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾.
وابن آدم -كما نعلم- مخلوق من الماء، وهذا الماء من صفته أنه دافق، يعني يخرج باندفاع وقوة.
﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾، هذا الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب.
الصلب: هو أسفل الظهر، أسفل العموم الفِقري يُسمى صلبًّا.
والترائب: هي عظام الصدر .
وهنا نقول : هل المقصود أن هذا التكوين للماء للرجل وحده أو للرجل والمرأة؟ ليس في الآيات ما يدل صراحة على أنه للرجل وحده، ولا للرجل والمرأة.
وبالنظر إلى الآيات نجد أن فيها إشارة أن هذا من الرجل؛ لقوله: ﴿ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴾، والدفق هو من صفة ماء الرجل.
أي يخرج من الرجل من المنطقة التي تكون بين صلبه وترائبه،
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾،
"إنه" أي: الله -بلا شك .
﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ اختُلف فيها، هل هي على رجع الإنسان، أو على رجع الماء الدافق؟
إذن العلماء -رحمهم الله- عندهم خلاف في هذا على قولين:
- ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ رجع الإنسان.
- أو في هذه الآية ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ على رجع الماء.
ومما يؤكد هذا: أن الآية جاءت لتستدل على أمر جاء القرآن به كثيرًا، وهو من قضايا الخصومة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والمشركين.
إذا قلنا: "إنه على رجع الإنسان لقادر" ما معنى ذلك؟ القضية التي اختصم فيها النبي مع المشركين ما هي؟ قضية هل فيه يوم آخر أو ليس هناك يوم آخر.
أما هل الله يقدر على أن يرد الماء أو لا يرده، لم يختصم فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين، فبانَ لنا بذلك أن القضية التي جاءت الآيات لتقريرها هي القضية التي وقعت فيها الخصومة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، وهي قضية البعث، هل سيكون أو لا يكون، وهل الله قادر عليه أو غير قادر -تعالى الله عما يقول المشركون علوًّا كبيرًا- واضح هذا المعنى؟
ولذلك نحن نقول: من عادة القرآن الاستدلال على البعث والاعتناء بأمر البعث، ومتى جاءت الآية مختلفًا فيها بين أن يكون جاريًا على العادة أو مخالفًا لها، قلنا: لا؛ لأن يجري على العادة القرآنية أولى.
وبهذا نقول: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ أي الإنسان، ﴿ لَقَادِرٌ ﴾، قادر سبحانه أن يرجعه.
قال: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾، ما معنى ﴿ تُبْلَى ﴾؟
تُختبَر ويُنظَر إليها كما قال الله -عز وجل- في سورة العاديات: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ
أي تُكشَف وتُختبَر ويُنظَر إليها، ويُميَّز بين ما هو في صالح الإنسان وما هو ضده، ما هو خير وما هو شر، ما هو إيمانٌ وما هو كفر، ما هو صدقٌ وما هو كذب، إلى آخره، ﴿ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾.
وهذه الآية ينبغي للمؤمن أن يخاف منها.
لأنه سيأتي علينا يوم تُختبَر فيه سرائرنا، تُختبَر فيه نيَّاتنا وما في قلوبنا، هذا شيء مهول، هذا شيء عظيم ينبغي علينا جميعًا أن ننتبه له.
ولذلك على كل المسلم ومسلمة أن يلزم طريق الصدق، يلزم طريق الصدق والوضوح وعدم النفاق والمواربة، وأن يقول بلسانه شيئًا لا يعتقده بقلبه، إلى آخره.
﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولَا نَاصِرٍ ﴾،
أي في ذلك اليوم ليس له من قوة يدفع بها عذاب الله -عز وجل-، ولا ناصرٌ من غيره يدفع عنه ما حلَّ به من البلاء، وهذا في غاية التهديد لبني الإنسان.
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ هذا قسم جديد .
﴿ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ ما معنى الرجع ؟!
ذات المطر، المطر سُمِّيَ رجعًا؛ لأنه يرجع مرةً بعد أخرى، المطر ما نزل مرَّة واحدة وانتهى، بل إنه يعود إلى الناس، ويعود بصفة الرجوع .
﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾،
هذا قسمٌ آخر بالأرض ذات الصدع؛ أي ذات التشقق، إذا نزل عليها المطر تشققت بالنبات؛ لأن النبات يكون مغروسًا في جوفها، فإذا نزلت عليه قطرات المطر شقَّ الأرض حتى خرج فوق ظهر الأرض.
فالقرآن ينزل من السماء كنزول المطر من السماء، وينزل على القلوب التي في أجواف العباد، فمن القلوب ما ينتفع بهذا القرآن ويتشقق بالنبات، يعني ويتشقق بالمنفعة، فيتذكر ويتعظ ويخشى.
ومن القلوب ما هو صلدٌ لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، ولا يأبه لشيء .
فهذا مثلٌ للقرآن، ولهذا جاء بالقرآن هنا فقال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾ .
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّهُ ﴾ أي القرآن ﴿ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾، قولٌ يفصل بين الحق والباطل، فالقرآن من أوله إلى آخره جاء للفصل لبيان الحق، حتى فيما اختلف فيه بنو إسرائيل من كتابهم وأخبارهم جاء القرآن ليفصل بينهم .
﴿ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ أيضًا ليس فيه شيء جيء به للترفيه والحكايات والأحاجي والألغاز والتسلية، كل ما فيه ليس هزلًا، بل جدٌّ كما قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]، فهذا القرآن كله جد، جاء بالحق الذي لا هزلَ فيه، ولا مِريةَ فيه، ولا لعب فيه، ولا لهو فيه، ولا شك فيه، من أوله إلى آخره، ما من كلمة وُضِعت ولا آية أُنزلت إلا وقد جاءت بالحق البيِّن الذي لا مرية فيه .
قال: ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ أي: هؤلاء الكفَّار ﴿ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴾ أي كيدًا عظيمًا، لكن الله يردُّ على كيهم بكيده،
فيقول: ﴿ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾، وجعله نكِره ليعظِّمه، وكيد الله خيرٌ من كيدهم،
﴿ وَيمْكُرُونَ وَيمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
- وهل نثبت صفة الكيد لله؟
نقول: صفة الكيد تكون مرادًا بها المدح، ومرادًا الذم.
فيراد بها المدح عندما يكون في مقابلة كيدٍ، يكون ممدوحًا مَن يكيد لمَن يكيد.
ولذلك ما جاءت في القرآن إلا على وجه المقابلة، الاستهزاء، الخداع، المكر، الكيد، هذه الصفات جاءت في القرآن على وجه المقابلة.
يكون ممدوحا أن يكون رداً على كيد الكائدين
قال العلامة العثيمين في المجموع الثمين: لا يوصف الله تعالى بالمكر إلا مقيدا، فلا يوصف الله تعالى به وصفا مطلقا، والمكر التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر، فإن قيل: كيف يوصف الله تعالى بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟ قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله تعالى به على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: إن الله ماكر.
قال الله -عز وجل-: ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا ﴾، لا تستعجل عليهم -يا محمد- فإن الله -سبحانه وتعالى- ما يقدر ما يقدر، وما يجعل هؤلاء يفعلون ما يفعلون إلا لأمر يريده، فعليك بالصبر والتريث وعدم الاستعجال، لا تستعجل لهم، مهّلهم، فسيأتي أمر الله -عز وجل- فيهم، أمر الله القدري بأن ينزل فيهم عقوبته وبأسه، وأمر الله الشرعي عندما يأذن لك بقتالهم، فتستأصلهم ولا تبقي منهم.
وبهذا نكون أنهينا تفسير سورة الطارق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق