'
لقاءات مجموعة | تدارس 📚 |
في تطبيق لاين [line]
الدرس العاشر ، الحادي عشر :
سورة الإنفطار مكية أم مدنية ؟!
هي سورة مكية بالإجماع، لم يقع فيها خلاف.
والسورة المكية يكون حديثها عن ماذا ؟!
لأنه في فترة وجود النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك في بداية دعوته كان يُأصل العقيدة فكان حديث السور عن القيامة وأهوالها وعن العقيدة لأن التشريعات والعبادة جُلها لم تنزل إلا بعد هجرته إلى المدنية .
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ و ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾»، فذكر ثلاث سور، تصور لك يوم القيامة تصويرًا بالغًا، وتبين لك مدى الهول الذي سيلقاه الناس، وستلقاه الخلائق في ذلك اليوم.
سورة الإنفطار كما قلنا تتحدث عن مشاهد يوم القيامة، لكن ليس بالإطناب المذكور في سورة التكوير، وذلك لأن سورة التكوير تقدمت، فجاء فيها من المشاهد ما هو أكثر .
يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، ما معنى انفطرت؟ السماء طبعًا معروفة لا يحتاج إلى أن نعرفها .
انفطرت: انشقت.
وهنا وقفه لعلنا نبين شيئا مرتبط بالسورة الماضية وبهذه السورة والسورة القادمة بإذن الله .
جاء في هذه السورة ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، وجاء في سورة الانشقاق: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وجاء في سورة التكوير: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11].
وصفت السماء بثلاث أوصاف انفطرت وانشقت وكشطت كيف نجمع بينها ؟!
الانفطار، يقول العلماء: هو أول الانشقاق، ينفطر الشيء، ثم ما يزال يزداد حتى يتضح الانشقاق، ولذلك جاء في هذه السورة ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، وجاء في سورة الانشقاق: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وجاء في سورة التكوير: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11].
فالذي يظهر -والله أعلم- أن ترتيب هذه الآيات كالتالي: انفطار، فانشقاق، فكشط.
والكشط: هو السلخ والذهاب أو الطي، كما قال الله -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ [الأنبياء: 104].
بدأ الله السورة بذكر السماء لماذا ؟!
لأن السماء في نظرنا الآن هي أكبر المخلوقات، فنحن لا نرى من مخلوقات الله شيئًا أعظم من هذه السماء، وليس هذا حديثًا عن مخلوقات الله كلها، لكن في نظرنا نحن الآن لا نرى شيئًا أكبر من السماء التي هي قبَّة مشتملة على كل ما في هذا الكون المرئي المبصَر.
قال الله بعدها: ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾، انتقل من عالم علويٍّ إلى عالمٍ علويٍّ آخر ولكنه أدنى منه، وهو الكواكب، والمقصود بها نجوم السماء.
قال: ﴿ انتَثَرَتْ ﴾، انتثرت بمعنى ماذا؟
تساقطت، وهذا ما جاء في سورة التكوير، قال: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴾ [التكوير 1، 2].
قلنا "انكدرت" يمكن أن تكون بمعنى "انكدرت" : تساقطت وانتثرت، وتفسرها هذه الآية.
وانكدرت: من الكدرة، أظلمت وانطفأت.
وهي إذا تساقطت لا شك أنها سينتج من ذلك ويلزم منه أنها ستنطفئ.
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾، "فجرت" بمعنى ؟!
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾، "فجرت" بمعنى: انفجر بعضها على بعض، بعض السلف عبَّر عن هذا بقوله: امتلأت، وبعضهم قال: انفجر بعضها على بعض.
نلاحظ أن هذا يلزم من هذا، فإذا هي امتلأت انفجر بعضها على بعض، فهذه الحدود التي تحدُّ البحار في الكرة الأرضية ستتلاشى وتذهب.
بعضهم قال: انفجرت بمعنى يبست، وهذا بعيد في اللغة، لكنه من حيث المآل صحيح؛ لأنها ستمتلئ فينفجر بعضها على بعض، ثم تسجَّر بنار عظيمة من تحتها فتيبس ولا يبقى لها وجود.
وفي هذا النص ستجدون ربطاً بين هذين التفسيرين " فجرت " وسجرت "
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾، القبور التي هي مأوى الناس إذا ماتوا.
﴿ بُعْثِرَتْ ﴾ ما معناها؟
بعثرت؛ أي أُثيرت وبُحثت، وأُخرج مَن فيها، فكل مَن في هذه القبور من الأجساد التي دخلت فيها ستخرج بهذه البعثرة.
قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلِمَتْ ﴾، هذا جواب "إذا"، يعني إذا السماء، وإذا الكواكب، وإذا البحار، وإذا القبور، في تلك اللحظة كل نفس تعلم ماذا معها من العمل؟ ماذا قدَّمت وماذا أخرت؟
﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾
﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾.
وقوله: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾؛ أي نفس؟ نفس صالحة؟ نفس فاسدة؟ مؤمنة؟ كافرة؟
كل النفوس عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾، طيب ما معنى ﴿ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾ ؟!
عمل الإنسان قسمان:
- قسم يكون في حياة الإنسان.
- وقسم يكون بعد موته، مثل الصدقة الجارية، والعلم الذي يُنتفع به. فهذا مما أخره الإنسان بعد موته.
فالآية منتظمة لهذا، ومنتظمة لذاك، والمقصود منها: علم الإنسان بعمله كله، أوله وآخره، ما كان في حياته وما كان بعد موته.
وهذه الآية نأخذ منها: أن الإنسان ينبغي كما يقدم عملًا صالحًا أن يؤخر أيضًا عملًا صالحًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، نسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنِّه وكرمه أن يجمعها لنا.
ثم يقول بعدها
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هل هو الكافر أم المؤمن ؟!
المراد به الإنسان الكافر، لأن قوله: ﴿ مَا غَرَّكَ ﴾ جعلك تغتر، فتقصر في حق ربك، ولا تقوم بما هو واجب عليك من الإيمان والطاعة؛ هذا لا يليق إلا بالإنسان الكافر.
ولذلك ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ﴾ ما الذي غرك بربك الكريم.
قوله: ﴿ بِرَبِّكَ ﴾ لمزيد العتاب والذم لهذا الإنسان الذي اغتر بحياته وما أوتيه في الدنيا، وترك طاعة ربه والإيمان به وبآياته ورسله، وليست لإعطائه الحجة على الله -سبحانه وتعالى- كما يقول بعض المتأولين.
فقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ﴾، الذي خلقك، ربَّاك، سوَّاك، أعطاك، أنعم عليك، حفَّك بربوبيته، أكرمك
هذا هو ربك الذي له النعمة الكاملة عليك، ولذلك ما قال: "ما غرك بالله" ما جاء بلفظ الألوهية، وإنما جاء بلفظ الربوبية ليُبيِّن كيف كان الرب رحيمًا، عطوفًا، كريمًا مع هذا الإنسان، لئلا يبقى له حجة على الله.
ولذلك هذه جاءت "ربك" و"الكريم" لإقامة الحجة على الإنسان وإلجامه، كيف ربك أكرمك؟ هل قصَّر عليك؟ هل لم يُرسل لك الرسل؟ ولم يعطك الوسائل التي تتعرف بها على الحق من الباطل؟ هل هناك شيء تحتجّ به على الله؟ تقول: ما بان ليَ الحق، ما ظهر ليَ المراد، ما أرسلت ليَ الرسل، ما أنزلتَ عليَّ الكتب، ما أوضحت لي المراد، لم تجعل لي عينين، لم تجعل لي أذنين، لم تجعل لي لسانًا وشفتين؟ أبدًا، كل ذلك ليس من حقك أن تقوله لله -عز وجل-؛ لأنه ربَّاك وأكرمك. إذن فما حجَّتك؟
وفي صيغة العتاب هذه تبيين لهذا الإنسان بنعم الله عليه فكيف اغتر بنفسه وكفر بربه قال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾.
خلقك بمعنى أنشأك وأوجدك من العدم.
سوَّاك: جعلك مستويًا، يعني كل جزء من أجزائك يؤدي عملًا معيَّـنًا وباستواء.
﴿ فَعَدَلَكَ ﴾ أو ﴿ فَعَدَّلَكَ ﴾ جعلك معتدلًا في كل شيء، تجد للإنسان عينين إحداهما في اليمين، والثانية في اليسار. يدين، إحداهما هنا، والثانية في نفس المكان من الشق الآخر. ولم يجعل مشوَّشًا بمعنى أن يدًا في الجنب، ويدًا في الظهر مثلًا، أو عينًا في الأمام، وعينًا في الجنب، أو رجلًا في الرأس، أو رأسًا في الرِّجل أو في القدم، أو في الركبة، لا، جعلك أيضًا معتدلَ الخِلقَة قائمًا مستويًا على خلاف ما هو حال مثلًا هذه البهائم التي سخرها الله لك .
وهنا يبين الله لهذا الإنسان كيف خلقه وسواه معتدلاً .
قال الله -عز وجل-: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾؛ أي جعلك في صورة هو شاءها، هذه الصورة هي أجمل الصور وأحسنها، وليس لك من أمر صورتك شيء، يعني لستَ أنتَ الذي تصنع هذه الصورة، فلو وُكِلَ ابن آدم أن يصنع صورة لصنعها على وجه واحد، وصرنا لا نفرق بين أمل ولا هدى ، ولا أسماء ، ولا غيرهم، صاروا كلهم شيئًا واحدًا، فالله -عز وجل- من رحمته، ومن حكمته أن جعل التصوير إليه، ولم يجعله لأحد، ولذلك يخلقنا في أي صورة هو يشاؤها -سبحانه وتعالى-، مرة تشبه خالك، ومرة تشبه عمَّك، ومرة تشبه أباك، ومرة تشبه أمك، ومرة يكون الشبه إلى جنس أخوالك، أو جنس أعمامك، وهكذا.
وهنا ستجودون عجباً وكيف أن الله جعل صورة البشر إليه لا إلى أنفسهم .
ثم لمَّا ذكَّر بالنعم، وعاتب الإنسان على معصيته، وعدم قيامه بطاعة ربه، واستعداده للقاء الله -عز وجل- قال: ﴿ كَلَّا ﴾.
﴿ كَلَّا ﴾ ردع وزجر لهذا الإنسان الذي اغتر وترك الاستعداد للقاء الله، والاستعداد لذلك اليوم المهول العظيم.
﴿ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾، ما أشغلكم، ولا غرَّكم، ولا جعلكم تنسون لقاء الله؛ إلا تكذيبكم بيوم الدين، فلو أنكم صدقتم به وعرفتم أنكم ستلاقون الله لعلمتم حقًّا، أو لفعلتم حقًّا ما يجب عليكم فعله من الإيمان والطاعة.
والدين: هو الجزاء والحساب.
( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) هنا يعود المقام إلى تذكير العبد بأنه تحت رقابة الله، وأن الله ما خلقه عبثًا، ولا جعله هملًا، ولم يتركه سدًى، بل خلقه في حالة تدل على أنه متابَع ومراقَب ليستعدَّ للقاء آخر يُجازَى على كل شيء، ويُحاسَب على كلِّ صغيرة وكبيرة.
من هم هؤلاء الحافظون ؟!
نعم الملائكة لذلك قال بعدها ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾.
﴿ كِرَامًا ﴾: يعني ذوي منزلة عالية رفيعة عند الله، والكريم من كل شيء هو أعلاه في جنسه.
وهنا تنبيه يسير الحافظون هم الملائكة، يحفظون على الإنسان كل عملٍ من أعماله، وليس المقصود بالحفظ هنا -بالمناسبة- هو الحفظ من وقوع المقدور، لماذا؟ لأن الآيات دالَّة هنا على معنًى في الحفظ غير المعنى المذكور في قول الله -عز وجل-: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، وقوله: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق 1-4 ].
فالحفظ هنا في سورة الطارق، وفي سورة الرعد هو أن تحفظ الملائكةُ الإنسان من وقوع المكروه، أو وقع ما لم يُقدَّر عليه.
أمَّا هنا فالمقصود بها حفظ الكتابة، فكل ما تقوم به من عمل، ما تلفظ به من قول، فهو مدوَّن ومسجَّل ومثبَت، تثبته هؤلاء الملائكة ولا يتركون منه شيئًا.
كما قال الله -عز وجل-: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
لا حظتم في النص السابق أن الحفظ في هذه السورة المقصود بها بماذا ؟!
حفظ الكتابة كتابة الأعمال .
ثم قال بعدها ﴿ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾، فكل ما يفعله الإنسان ويقوم به تعلمه هذه الملائكة وتدوِّنه، لا تترك منه شيئًا.
بعدما ذكر هذا العتاب وبيَّن أن كل عمل ابن آدم محسوب، انتقل إلى الجزاء فقال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾
قال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ ﴾ من هم الأبرار ؟!
جمع برّ، والبر هو المتوسع في فعل الطاعات .
فلما كان البر متوسعًا في فعل الطاعة، يتصدق، يصوم، يحج، يذكر الله، يقرأ القرآن، يقوم الليل، يبر الوالدين، يصل الرحم، يحسن إلى الخلق، يُكرم الضيف، إلى آخر أعمال البر، يسعى فيها ويُنوِّع بينها سُمِّيَ برًّا، وجمعه: أبرار، جعلني الله وإياكم منهم.
ولعل هذه من الأيام التي ينبغي للمسلم وللمسلمة أن يتوسع في فعل الطاعات فهي أيام فاضله .
قال: ﴿ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، نعيم، المقصود به -بالدرجة الأولى: نعيم الآخرة، لأن الحديث عن الآخرة، ولكن ذلك لا يمنع أن يأخذ الإنسان من النعيم بقدره في دنياه وفي قبره؛ لأن النعيم هنا جاء مطلقًا غير مقيد.
ما قال: "لفي نعيم في الجنة أو في الآخرة"، فدلَّ ذلك على أن البارَّ يُدرك من النعيم في الدنيا، وفي قبره، وفي الآخرة، كل واحد من هذه الدور الثلاثة بحسبها، وهذا ما أثبته ابن القيم -رحمه الله- في تعليقه على هذه الآية، بأنها جاءت مطلقة.
وهذا يلاحظه الأبرار، فإنهم يُدركون من لذة الطاعة والإيمان، وعمل البر وفعل الخير، ما تنشرح به صدورهم، وتأنس به نفوسهم، ويدركون به لذَّة عظيمة من لذائذ الحياة، أسأل الله أن نكون منهم .
حتى إنه يقول بعضهم: "إنه لتمرُّ بي ساعات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم طيب".
وهذا من جزاء المؤمن المُعجَّل، يُعجِّل الله له أثر برِّه وطاعته، ونحن نقول لكل إنسان يجد ضيقًا، وكدرًا في نفسه، يجد همومًا وأحزانًا، اعلم أن هذا بسبب تقصيرك في حق الله، فالله -سبحانه وتعالى- شكور، ومن كونه شكورًا أنه يُعجل لعبده بالثواب وإن لم يكن هو الثواب الأعظم الذي يُدَّخر للعبد يوم القيامة.
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، الفجار: هم الذين فجروا من جهتين من تعرف ؟!
- من جهة فجور القلب بالتكذيب.
- وفجور الجوارح بالعاصي.
أي خرجوا عن الطاعة .
( يَصْلَوْنَهَا يوم الدين )؛ أي يصلون تلك الجحيم يوم الدين، أي يوم الجزاء والحساب .
قال: ﴿ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾، عن ماذا ؟
نعم عن الجحيم .
﴿ بِغَائِبِينَ ﴾؛ أي مخلدون فيها لا يخرجون منها، فالمقصود بها ذكر خلودهم وبقائهم في النار -نسأل الله العافية والسلامة.
ثم عظَّم الله يوم الدين في قوله -بهذا الأسلوب الذي سيتكرر معنا كثيرًا في جزء عم: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾، إنه يوم عظيم، يوم مهول، استعدوا له، وانتبهوا له، واستيقظوا لعظمته، وكونوا على حذر منه، وخذوا الأهبة التامة لهوله، فإنه فوق ما تتخيلون، وأعظم مما تصورون.
ثم أجاب بهذا الجواب الفخيم، الرهيب، المهول، الساكن، الذي يملأ النفس عظمة وهيبة: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ﴾، ليس هناك نفس -مهما كانت- تملك لنفس -مهما كانت- شيئًا، إلا أن يأذن الله بشيء من ذلك ويرضاه، فلا أحد في ذلك اليوم يتصرف أو يقدم خيرًا، أو يدفع ضرًّا، أو ينصر أحدًا، إلا أن يأذن الله به.
ثم ختم الله هذه السورة بقوله: ﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾، الأمر كله لله، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسل، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا طُلبت منه الشفاعة يذهب ويسجد عند العرش، ويحمد الله بمحامدَ لم يُفتح عليه بمثلها من قبل، ويُكثر من الحمد لله -عز وجل- حتى يُقال له: «ارفع رأسك، وسل تعط، واسمع تُجَب»، أو كما قال الحديث.
وهذا فيه مما يقرع النفوس ويأخذها الرعب من مثل هذا المشهد .
وبهذا تكون هذه السورة العظيمة المهيبة قد أثَّرت في نفوسنا أننا نستعد للقاء الله -عز وجل-، ونستعد لذلك اليوم بالعمل الصالح، فنكون من الأبرار الذين توسَّعوا في فعل البر، وصار لهم النعيم المقيم، ونحذَر أن نكون من الفجار الذي لم يستعدوا لذلك اليوم، ولم يتأهبوا له بالزاد الذي ينبغي أن يتزود لمثله به .
ونحن نتدارسها ووافق هذا التدارس هذه الأيام الفاضلة والتي خصها الله وعظم الأجر فيها فلنكن من المشمرين والمقبلين والمتزودين .
وهنا نختم سورة الإنفطار .