سورة المطففين
"سورة المطففين تسمى عند العلماء: سورة المطففين، سمَّاها البخاري في صحيحه: سورة: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴾، وهذا تسمية بأول آية من آيات السورة. وبعض المفسرين سمَّاها: سورة التطفيف. ولا يُعرف لها غير هذا من الأسماء، فكلها تدور حول هذا الاسم: المطففين."
من تقول لنا : هل سورة المطففين مكية أم مدنية ؟!
"هذه السورة اختُلف فيها، هل هي مكيَّة أو مدنية؟ على ثلاثة أقوال: ١- من العلماء من قال: إنها مكية، نزلت في آخر العهد المكي، وذلك لأن جوها وحديثها يتحدث عن موضوعات يوم القيامة، وذُكر فيه قول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾، وهذا إنما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة. وأيضًا جاء فيها قول الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾، فهذه آيات تتحدث عن مشاهد كانت تقع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة."
"٢ - وآخرون من أهل العلم، ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يرون: أنها نزلت في مَقْدَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وذلك بسبب سبب النزول، فإن سبب النزول ورد في هذه السورة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء إلى المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله هذه السورة لتعظهم وتحذرهم من مغبة ظلم العباد في هذا الشيء الطفيف الذي يؤخذ من حقوقهم، وهذا قال به جماعة من المفسرين، وعليه كثير من الجمهور والمفسرين على أن السور مدنية. وابن عباس يرى أن السورة مدنية إلا الآيات الأخيرة في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾، إلى آخر السورة."
٣- وآخرون من أهل العلم يرون أن السورة نزلت في مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة، وإلى هذا مال الطاهر بن عاشور في تفسيره المعروف "التحرير والتنوير"، قال: وهذا يعني هو اللائق بهذه السورة، فإن جوها جو السور المكية، ومضمونها مضمون السور المكية، وسبب نزولها يدل على أن لها ارتباطًا بالمدينة، فلعلها نزلت قبل أن يصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؛ لأن أهل المدينة كانوا متلبسين لهذا الأمر، وهو التطفيف في المكاييل والموازين، فأراد الله أن يطهر المدينة من عمل سيء لا يليق بمجيء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى كلٍّ: فهذا الأمر يسير؛ لأن كونها مكيَّة أو مدنيَّة لا يترتب عليه نسخ، لأنه ليس في الآيات ما يُنسخ، وكل ما في الآيات محكم -ولله الحمد والمنَّة- ولكن من باب زيادة العلم، هل هي مكية أو مدنية؟ وليس هناك مانع من أن تكون هذه السورة نزلت في أواخر العهد المكي، وأوائل العهد المدني، وجُمعت بعد ذلك.
اتضح لكم مسألة الخلاف في أين نزلت
ونحن في السور الماضية كان هناك اتفاق بين العلماء في مكان نزولها
ولكن في هذه السورة اختلفوا لما كانت السورة تحمل شيئا من صفات المكية وصفات المدنية
"افتُتحت بقوله: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴾، ﴿ وَيلٌ ﴾، ما ويل؟ "
هنا قولان للمفسرين: - منهم مَن قال أنه وادٍ في جهنم، وهذا يستند إلى آثار، وهذه الآثار في النفس منها شيء. لكن الأشهر في استعمالها عند العرب أنها كلمة تهديد ووعيد، يُقال: ويلٌ لك، وويلٌ لفلان، وويلٌ لهؤلاء القوم، يُقصد بها التهديد والوعيد لهم من شرٍّ يحيق بهم ويلحقهم."
وبقاءها تهديدًا مفتوحًا أكثر هيبة في النفوس من أن يكون تهديدًا بشيء معيَّن، لماذا؟ لأن المُهدِّد هنا مَن هو؟ هو الله -سبحانه وتعالى-، وكون النفس لا تدري بما هددت به، وما الجزاء الذي ينتظرها؛ قد يكون أبلغ في ردع النفس عن التمادي في باطلها الذي تتهاون فيه.
فالله يقول: ﴿ وَيلٌ ﴾ لمَن يا رب؟
لمن هنا الويل ؟!
للمطففين
من هم المطفيفين
المطففون: مأخوذ من التطفيف، والتطفيف هو أخذ الشيء الطفيف، يعني أخذ الشيء القليل، وذلك عندما يكيل الإنسان أو يزن شيئًا فإنه ينقص شيئًا يسيرًا إذا كان يبيع للناس، وإذا كان يشتري لنفسه فإنه لا يأخذ الحق الواجب له، وإنما يزيد عليه شيئًا طفيفًا، فهو يظلم هنا وهنا، يظلم عندما يشتري، ويظلم عندما يبيع
"مَن المطففون؟ فسَّرهم وبيَّنهم، وبيَّن أن المقصود بهم أولئك الذي يتهاونون في هذا الشيء الطفيف في المكاييل والموازين عندما يبيعون أو يشترون. قال: ﴿ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴾، ﴿ اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ﴾:
يأخذون حقهم وافيًا، ويزيدون عليه. ﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ ﴾؛ أي كالوا للناس، ﴿ أَو وَّزَنُوهُمْ ﴾؛ أي وزنوا للناس، ﴿ يُخْسِرُونَ ﴾ أي ينقصون. فهم عند الشراء يأخذون حقهم وافيًا وقد يزيدون، وعند البيع ينقصون من حق المشترين فلا يؤدونهم الحق الكامل."
السليمة تنكره، لم يتحدَّث عن تحريمه؛ وإنما تحدَّث مباشرة عن جزائه، ولم يتحدَّث عن الدلائل على وجه كونه محرَّمًا؛ لأن هذا الأمر تعرف النفوس كلها أنه من الباطل، فأنت لا ترضى -ولو لم تعلم الشرع- لا ترضى أني إذا كلْتُ لك أو وزنْتُ لك أنِّي أنْقص في حقك، فكل النفوس تأبى ذلك وتراه من الظلم.
ولذل قال هنا: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿4﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، فوعظهم بالموقف الذي يكون بين يدي الله، وفيه توزن الأعمال، وفيه يخاف الإنسان، وفيه يرجع الإنسان إلى ما قدَّم ويتأكد مما عمل. ١١: ما الأمة التي عُذبت بسبب تطفيفها في المكاييل والموازين؟
نعم، أحسنت، قوم شعيب كانوا يطففون ويخسرون في المكيال والميزان، وأنزل الله -عز وجل- فيهم آيات في سور معدودة، منها سورة هود، ومنها ما في سورة الشعراء، وغيرها من سور القرآن، وبين الله سبب عذابهم، فهم قوم قد كذبوا نبي الله، وأشركوا مع الله، وكان من أعظم المشكلات التي وقعوا فيها أنهم كاو يطففون في المكاييل والموازين.
وهنا وقفة يسير ولكنها مهمه حول التطفيف .
هذا التطفيف الذي يكون في المكاييل والموازين يكون له صور كثيرة جدًّا، فعندما نقول لكثير من الناس: ما التطفيف؟ يقولون: أن تزيد أو تنقص في المكيال والميزان عندما تزن للناس، حسب ما هو موجود في الموازين المعروفة لدى كثير من الناس .
هذا التطفيف الذي يكون في المكاييل والموازين يكون له صور كثيرة جدًّا، فعندما نقول لكثير من الناس: ما التطفيف؟ يقولون: أن تزيد أو تنقص في المكيال والميزان عندما تزن للناس، حسب ما هو موجود في الموازين المعروفة لدى كثير من الناس
"لكن الحقيقة أن التطفيف ينتظم صورًا كثيرة لا حصر لها. مثل الآن أن تباع سلعة يقال إن وزنها كذا، وعندما تزنها في الميزان، أو تُفرغها من العبوة الموجودة فيها تجد أنها أقل مما هو عليه."
فبعض السلع يكتب لها حجم ولو وزتيها لوحدي حجماً آخر
"التطفيف إذا كان في القليل يحاسب الله العباد عليه ويحذرهم منه، إذن فما بالك بمن يأخذ الكثير؟ ما بالك بمن يَعتدي على أموال الناس ويسلبها منهم؟ سواء كانت هذه الأموال شيئًا في جيوبهم وتملكوه وحازوه، أو شيئا من بيت مال المسلمين. "
"فهؤلاء العمال والموظفون والمسؤولون الذين يتهاونون في بيت المال فيأخذون ما لا يحل لهم هم أشد حالًا، وأعظم سوء من هؤلاء الذين توعدهم الله بقوله: ﴿وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ﴾. إذا كان الله يحاسب على الشيء القليل واليسير، ويتوعد بالويل عليه، فما بالك بمن يأخذ المال الكثير؟! ومن يأخذه من أفواه الفقراء ليضعه في جيوب الأغنياء؟! أليس هذا متوعدًا بالويل؟!"
النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما وقف في يوم عرفة، قال مُعلنًا أمام الناس: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
يظن بعض الناس أن التطفيف يقتصر على القضايا المالية، والحقيقة أن القضايا المالية يقع فيها التطفيف ويعلمه كل الناس، لكن التطفيف -أيضًا- يقع في أمور أخرى، مثل الحكم على الناس، فعندما تحكم على صاحبك الذي تحبه تزيد في مدحه، وتغض الطرف عن مثالبه، وما عنده من نقص، هذا تطفيف؛ لأنك زدت عن الحد المطلوب، وعندما تتحدث عن ذاك الذي لا يحترمك، أو لا تحبه، أو بينك وبينه إشكال، أو يعني -كما يقول العامة عندنا وقفة نفس- فإنك ماذا؟ تنقص من حسناته وتزيد في سيئاته. ولاحظوا هذه النقطة بالذات
فهي رواجه في المجالس
"عندما تذكر المؤسسة التي تنتمي إليها، لا تذكر إلا إيجابياتها، وعندما تذكر تلك المؤسسة أو الجمعية، أو الجماعة التي لا تنتمي إليها، فإنك لا تذكر إلا سلبياتها، أو تزيد في السلبيات وتنقص من الحسنات، هذا ماذا يُسمى؟ تطفيفًا، وهو داخل في هذا المعنى. "
"أيضًا، عندما يطلب منك أن تُقيِّمَ شيئا ما، ولك فيه هوى، فتزيد في التقييم، أو تَنقص لأغراض شخصية، يعتبر ذلك من التطفيف. "
وقد قال بعض العلماء المعاصرين: "هذه الآية تدل على تحريم قليل الربا، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتهاون في الربا، لا قليله ولا كثيره".
وفي إحدى الشركات مرة لما أكثر الناس على مسؤول الشركة في إزالة الربا منها، قال: يا جماعة، أزعجتمونا، هي كلها 2.5% نسبة الربا الموجودة في هذه الشركة، فلماذا كبرتم هذا الأمر وضخمتموه؟
فقالوا: سبحان الله! إذا كان 2.5% لماذا أنت أفسدت هذا الحلال كله بهذا الـ 2.5، أزله والحمد لله لم نخسر شيئا، فأحرج وأسقط في يده، لأنه ظن أنه إذا قال: 2.5% أن هذا الأمر سيمشي عليهم، فقالوا له: بالعكس، لو قلت لنا إن الربا 30% قلنا كيف سيزيله ويصعب عليه، لكن 2.5 أَزِلْه وننتهي منه، ونبقى في ساحة هذا المباح الذي أحله الله -سبحانه وتعالى- لنا.
وهذه نظرة أخرى حول معنى التطفيف وكنا في الدروس الماضية نجمع لكم بين عدة تفسيرات
وهذه الدرس من دروس الشيخ : محمد الخضيري انتقيتها لكم لسهولة العبارة وبساطة الألفاظ وأسأل الله أن يحزي الشيخ عنا خير الجزاء
يقول الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ لماذا بدأ بكتاب الفجار ؟!!
بدأ بكتاب الفجار لأن المقام مقام وعيد، ولأن سور الانفطار انتهت بالحديث عن الفجار، فافتتحت هذه السورة أيضا بالحديث عنهم، ليكون الكلام متسقاً ومتصلاً .
قال: ﴿ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ ﴾ أي مآلهم، ومصيرهم، وكتاب أعمالهم، وهؤلاء الفجار بما أنه جاء الاسم مستقلا ولوحده، فإنه يشمل الفجور في الاعتقاد، والفجور في العمل.
﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾
ماهو سجين ؟!
معنى سجين : صيغة فِعِّيل هذه مأخوذة في الأصل من السجن، فالكتاب في مكان يتسم بأنه سجن، وهذا ينتظم وصفين:
الأول: السفول، أن يكون سافلًا.
والثاني: الضيق، فهو في مكان ضيق وسافل.
وهكذا كتاب الفجار، كما ورد في حديث البراء بن عازب وغيره: «أنه يكون في الأرض السابعة». ولا نعلم نحن أين هذه الأرض السابعة، لكن الله -سبحانه وتعالى- يعلمها، ونعلم أنها مكان سيئ وضيق، وأنه مكان سافل، لا يليق إلا بهؤلاء الفجار.
ثم قال على طريقة القرآن -وهذا الأسلوب سيمر بنا كثيرا في جزء عم: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴾، "ما أدراك ما سجين" ليس سؤالًا عن السجين بقدر ما هو تهويل وتعظيم للسجين.
وهنا تأملو من شدة الهول يقول تعالى :
﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾، أي مكتوب مرقوم بخط لا يُمحى، فلا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه، لا تتصور أيها الفاجر، أو أيها الكافر أنَّ اسمك سيَسقط من بين الأسماء، كما يحصل عندما تكتب بالقلم، أو عندما تكتب في الكمبيوتر سهوًا يذهب أحد الأسماء، لا، أسماؤكم وأعمالكم مُدونة في هذا الكتاب، هذا الكتاب الذي يتسم بأن ما كُتب فيه مرقوم، أي مكتوب كتابة لا يمكن أن تزول أو تحول.
قال: ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي في ذلك اليوم ويل لمن كذب. كذب بماذا؟ كذب بالله، وبآياته، وبرسله، كذب بهذا القرآن الذي أُوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دون بينة ومن دون أن يكون معه حجة وسلطان، ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
ثم بين هذا التكذيب ما هو، قال: ﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾، والتكذيب بيوم الدين فرع عن التكذيب بالله رب العالمين، وبرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبآيات الله الموحاة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال: ﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿11﴾ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ ﴾، ما يكذب بيوم الدين ﴿ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ ﴾ هذا هو الوصف الأول فماهو الوصف الأول ؟!
الوصف : معتد
المعتدي هو الذي يتعدَّى الحد
ومن الاعتداء :
- إن كان في الاعتقاد: بالشرك بالله -عز وجل- أو تعظيم مخلوق وجعل مقامه كمقام الله، أو الاعتداء على الله بأن يجعل محله كمحل المخلوقين، ونحو ذلك.
- أو في الأعمال: كأن يعتدي على أموال الناس بالظلم، والتطفيف، والربا، والسرقة، والاغتصاب، أو يعتدي على أعراضهم بالزنا واللواط، وغيرها من الأفعال المذمومة، وكبائر الذنوب وغيرها.
أما الثاني ففي قوله :
﴿ أَثِيمٍ ﴾، أي آثم في نفسه.
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ﴾، ؟!
هناك الذنوب قسمان:
- قسم يكون فيه اعتداء.
- وقسم يكون مقتصرًا على النفس.
يعني كون الإنسان مثلا يُسيء الظن بالمسلمين، هذا إثم، كون الإنسان ينظر إلى شيء محرم، هذا ظلم منه لنفسه، فهم إثم، أما كونه يأخذ أموال الناس؛ فهذا اعتداء.
فهذا هو الفرق بين قوله ﴿ مُعْتَدٍ ﴾ و﴿ أَثِيمٍ ﴾.
الآيات هنا : آيات القرآن أو الآيات الكونية
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ﴾، إذا تليت عليه آيات القرآن، وهنا الآيات ليس المقصود بها آيات الله -عز وجل- التي في الكون، لأنه قال قبلها ماذا؟ ﴿ تُتْلَى ﴾، فكلمة ﴿ تُتْلَى ﴾ تبين لنا معنى "الآيات"، وأن المقصود بـ "الآيات" هنا الآيات الموحى بها؛ لأن آيات الله آيات منظورة، أو آيات كونية، وآيات شرعية.
- الآيات الشرعية: هي هذا الوحي الذي أوحاه الله -سبحانه وتعالى- إلى رسوله.
- والآيات الكونية: هي الشمس، والقمر، والسماء، والأرض، وغيرها.
"قال -من اعتدائه وإثمه: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾، أي يرد هذه الآيات ببغي وعدوان، ومن دون حجة وبرهان، فيقول: هذه أساطير الأولين. الأساطير معروف أنها مختلقة، وأنها تفتقد إلى المصداقية والصحة، وأنها في الغالب تكون أقرب إلى الخرافة، يعني الشيء غير المعقول."
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهِم
ما معنى ران ؟!
﴿ رَانَ ﴾، الران: مأخوذ من الرين، وهو الغطاء، أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبون، الذي كانوا يكسبونه غطى على قلوبهم، فعملهم السيئ قد غطى على قلوبهم فهم لا يعقلون .
"والعلماء يقولون: الذي يغطي على القلب ثلاثة أشياء: - الغين. - الران. قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة»، ما معنى «ليغان على قلبي»؟ يعني يصيبه شيء لطيف جدا من الحجاب بسبب مكابدة الدنيا، وما يتصل بأعمال الإنسان وحياته، فهذا الغشاء الرقيق جدا الذي لا يكاد يرى يسبب النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الضيق فيستغفر الله -سبحانه وتعالى- منه، وهو في الغالب ليس من الذنوب، ولكن ما يصيب الإنسان من غفلة يسيرة يراها المقربون شيئًا عظيمًا في مقام علاقتهم بالله -سبحانه وتعالى-، ولذلك يبادرون إلى محوه، واستغفار الله -عز وجل- منه. أما الران: فهو الحجاب الكثيف الذي يمنع وصول الحق والاستماع إليه والاستجابة له."
"قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهِم ﴾، والرين يكون على القلب، وليس على الأذن، ولا على البصر، ولا على اللسان. "
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾، أي في يوم القيامة سيحجبون عن رؤية الله، لماذا يحجبون عن رؤية الله؟ لأنهم ما فتحوا أعينهم لرؤية آياته في الدنيا، فيجازون على ذلك بأنهم يوم القيامة يحجبون عن رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-.
"قال الله -عز وجل-: ﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ﴾، أي بعد حجبهم عن الله في يوم الموقف يصلون الجحيم. "
وهذا من شدة التعذيب
لاعراضهم
"﴿ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ ﴾، إذا أدخلوا النار قيل لهم: ﴿ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ ﴾، هذا الذي كنتم تكذبون بحصوله وتحققه، انظروا إليه، وهذا يقال لهم على وجه ماذا؟ على وجه التبكيت والاستهزاء بهم، جزاء ما استهزؤوا بآيات الله -عز وجل-. "
نسأل الله ألا يطبع على قلوبنا
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ )
"وقلنا إن كلمة ""الدين"" تأتي بمعان متعددة: - منها: الدين بمعنى الملة. - ومنها: الدين بمعنى الجزاء والحساب، كما تقول العرب: ""كما تدين تدان""، وكما في الأثر: "" الكيس من دان نفسه"" أي حاسبها وجازاها."
من هم الأبرار سبق أن درسناها هنا
(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ )
أي كتاب أعمالهم، ومآلهم، ومصيرهم ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾.
"قال الله -عز وجل-: ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾، أي لفي علو، وهذه الكلمة اختلف فيها السلف: - فمنهم من قال: ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ أي في السماء السابعة. - ومنهم من قال: عند قائمة العرش اليمنى. - ومنهم من قال: عند سدرة المنتهى. - ومنهم من قال: في السماء. والصحيح: أن ﴿ عِلِّيِّينَ ﴾ مأخوذة من العلو، أي في علو عند الله -سبحانه وتعالى-، وقد جاء في حديث البراء الطويل، قال: «اكتبوا -أو ضعوا- كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة»، فهذا يدل على أن عليين في السماء السابعة، والعلم عند الله."
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴾
"﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴾، هذا ليس على وجه الاستفهام المجرد الذي يراد به الجواب، وإنما يراد به التفخيم، والتعظيم، ولفت الانتباه، وشد الذهن إلى معرفة الأمر الفخيم العظيم. أي شيء عليون؟ هكذا يريد أن تفهم، وأن تعقل، وأن تنتبه."
قال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾ فما معنى مرقوم ؟!
أي هؤلاء كُتبت أسماؤهم وأعمالهم كتابة لا تُمحى ولا يُزاد فيها ولا ينقص، مرقومة رقما كما يكتب وينقش على الحجارة
"قال الله -عز وجل-: ﴿ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾، أي يحضره من كل سماء مقربوها، يحضره من أهل كل سماء من؟ مقربوها.
فمن المقروبون ؟!
"والمقربون: هم ملائكة الله -سبحانه وتعالى- الذي يقربهم الله ويدنيهم. يحضرونه لماذا؟"
يحضرونه ليباركوه، ليشهدوا عليه، وليحصل للمؤمن بشهود هؤلاء السعادة والسرور
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، هذه على طريقة القرآن في كونه إذا ذكر الوعد، ذكر بعده الوعيد، إذا ذكر الجنة، ذكره بعده النار، إذا ذكر الترغيب، ذكر بعده الترهيب، لأن القرآن مثاني.
ما معنى مثاني؟
يعني تثنى فيه الأخبار، والوعد والوعيد، والأحكام، والقصص، وتكرر وتعاد، ويؤتى بها على صفة لا تحمل الإنسان على القنوط ولا على الرجاء الذي يخرجه عن الخوف، فهو دائما بين جناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء.
"﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، هذا النعيم أين هو؟ هل هو نعيم الجنة؟ نقول: نعم، هو نعيم الجنة، لكن لا يمنع أن نبقي الآية على إطلاقها، فنقول: إذا كان هذا نعيمهم في الجنة، فلهم نعيم قبله يعتبر تقدمة له، وهو نعيمهم في الدنيا، نعيم الإيمان، وطيب النفس، واليقين. ونعيم في القبر، عندما يدخل المؤمن في قبره، ويفسح له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها."
-: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴾ ما هي الأرائك؟
السرر لكنها سرر مزينة ومزخرفة، ليست سريرا فقط؛ بل عليها ستور مرخاة، وفيها من أنواع الجمال والحبور واللذة وطيب المنظر، ما يجعلها مختلفة عن بقية السرر، فلا تسمى أريكة إلا إذا كانت في الحجلة، والحجلة مثل سرير العروس، يوضع فوقها ستور مرخاة، وأشياء تجملها وتجعلها في غاية البهاء والجمال.
"( على الآرائك ينظرون ) ينظرون إلى ماذا ؟!"
"هل ينظرون إلى نعيمهم؟ أو ينظرون إلى بعضهم؟ أو ينظرون إلى ربهم؟ أو ينظرون إلى الكفار وهم في نار جهنم يكتوون بنارها؟ نقول: ما دام اللفظ مطلقا في القرآن فنبقيه على إطلاقه. ولذلك من قال: ينظرون إلى نعيمهم؛ فهو صحيح. ومن قال: ينظرون إلى بعضهم كما قال الله: ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47]، قلنا صحيح. ومن قال: ينظرون إلى ربهم؛ قلنا صحيح؛ لأن في الآيات المتقدمة واللاحقة ما يدل على ذلك. ومن قال: ينظرون إلى إخوانهم الذين كانوا في الدنيا معهم، وكانوا على غير دينهم، ينظرون إليهم وهم في النار يصرخون من عذابها، فهو صحيح، لأنه ورد في سورة الصافات ما يدل على ذلك." ١١:٠٧ هذه سبيلي
أسأل الله أن نكون منهم .
﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾
"﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾، يعني ترى على وجوههم أثر النعمة، وأثر السرور والحبور، ويعرف دائما سرور الإنسان وحبوره، والتذاذه النفسي، وطيب قلبه، بما يرى على وجهه. يقول عثمان بن عفان: ""وما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه"". ففي وجوههم تعرف نضرة النعيم، كيف أنهم في مطعم طيب، وفراش طيب، ومسكن طيب، وأهل طيبين، ومكان منعم، كل ذلك يرى على صفحات وجوههم."
( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ )
"قال: ﴿ يُسْقَوْنَ ﴾، ولم يقل: ""يستقون""، لماذا؟ "
"لأنهم يطوف عليهم غلمان مخلدون، يطوف عليهم غلمان يأتونهم بالماء، يأتونهم بالطعام، لأن الجنة دار لا عناء فيها ولا تعب. "
رحيق ما معناه؟!
"نعم الرحيق هو: الخمر، رحيق الجنة خمرها. "
مختوم أي ؟!
" أي خاتمته مسك. "
﴿ وَفِي ذَلِكَ ﴾، أي في مثل هذا النعيم ﴿ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾، ليتسابق أهل السباق،
"ولا تنتظري أنك تقولي: والله الحمد لله أنا أصلي، أنا لست مثل فلانة، فلانة ما تصلي في السنة إلا مرة، وأنا أحسن منها حالا، أصلي كل يوم مرتين ثلاث. هذه ليست حال المنافس. حال المنافس التي أمر الله أن نكون عليها، هو المرء الذي لا يكاد يبصر أحدا تقدم عليها إلا سعى بجهده في أن يسبقه، وألا يكون خلفه، هذا هو المنافس."
"قال الله: ﴿ وَمِزَاجُهُ ﴾ أي خلطه، مخلوط بماذا؟ بالتسنيم. "
"هذا التسنيم هو أعلى أشربة الجنة، ومنه سمي تسنيمًا، لأن السنام هو العالي من الشيء، كما هو سنام البعير، فسمي أعلى أشربة الجنة بالتسنيم. قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴾، أي من شراب عال في الجنة، يخلط مع الرحيق الذي ذكره الله -عز وجل- في هذه الآية."
"﴿ عَيْنًا ﴾ التسنيم، التسنيم هذا عين. "
﴿ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾، فالمقربون يشربون صرفا غير ممزوج من التسنيم، أما الأبرار فإنهم يشربون من ماذا؟ الأبرار يشربون من الرحيق المختوم ممزوجا بالتسنيم؛ لأن منصبهم ومقامهم في الجنة دون منصب المقربين .
بعدما ذكر هذا النعيم، وذكر هذا العذاب، وأين كتاب الفجار، وأين كتاب الأبرار، ذكر لنا حال أولئك الذي كانوا يؤذون المؤمنين ويكذبون بكتاب الله -عز وجل-، وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ما هي حالهم في النار؟ ما هي حالهم يوم القيامة؟ سيأتيكم حالهم، سيذكر حالهم في الدنيا ماذا يفعلون بالمؤمنين، وحالهم في الآخرة.
قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا ﴾ أي في الدنيا، ﴿ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ماذا؟ ﴿ يَضْحَكُونَ ﴾، يستهزؤون ويسخرون .
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ ﴾ ماذا؟ ﴿ يَتَغَامَزُونَ ﴾
كيف يتغامزون ؟!
يشيرون بالأيدي، بالشفاه، بالأعين، للاستهزاء والسخرية والانتقاص من أولئك المؤمنين.
(وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ ) إذا رجعوا إلى أهلهم، ( انقَلَبُوا فَكِهِينَ )
كيف فكهين ؟!
أي متعجبين، أو مستهزئين ساخرين بأولئك الذين رأوهم من المؤمنين، فلا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا هؤلاء
وَإِذَا رَأَوْهُمْ ﴾، رأوهم في المجالس، أو في الأماكن، أو في وسائل الإعلام، ﴿ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾، بأي صورة من صور الضلال، كأن يقولوا: هؤلاء رجعيون، هؤلاء إرهابيون، هؤلاء متزمتون، هؤلاء... إلى آخره من العبارات التي هي بمعنى كلمة ﴿ لَضَالُّونَ ﴾، لأن المقصود المعنى، وليس المقصود اللفظ.
وهذا تلاحظونه في عصرنا وبكثرة كل يصنف الآخر بلا دليل ولا حق في ذلك .
﴿ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴾، لم يجعل الله هؤلاء حافظين لأعمال هؤلاء، انشغلوا بأنفسكم، صححوا أوضاعكم، انظروا إلى أعمالكم، تركتم الحق، وسخرتم بالمؤمنين.
﴿ فَالْيَوْمَ ﴾ الذي هو يوم القيامة، يوم يكون الناس فيه أبرارا وفجارا، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم.
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾، كان هؤلاء في الدنيا يضحكون، إذن تنقلب الآية في الآخرة، فيضحك المؤمنون من الكفار كما ضحك الكفار في الدنيا من المؤمنين، جزاء وفاقا.
ثم قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴾، يعني: والمؤمنون جالسون على الأرائك وهم ينظرون إلى الكفار فيضحكون منهم.
﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾، استفهام للتقرير، يعني هل جوزي، "ثوب" بمعنى: جوزي ﴿ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾، نعم لقد جوزي الكفار ما كانوا يفعلون، وأخذوا حظهم من العذاب جزاءً وفاقًا، لم يظلمهم الله -سبحانه وتعالى- شيئًا من أعمالهم.
وهنا نختم بفضل الله سورة المطففين